“ذاك يومٌ كله لطلحة”؛ كان الصدِّيق -رضي الله عنه- كلما ذُكر يومُ أحدٍ قالها.
نحن -كلَّ نداء جمعةٍ- نقول: هذا يومٌ كله لكشكٍ؛ وليُّ الله حبيبُ بيوته؛ طابت روحه.
لعل قبضَ اللهِ روحَك سيدي -يوم الجمعة- ساجدًا قبل شهودها؛ شهادةٌ منه -جلَّ جلاله- بذلك.
هنا مدرسة محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ الجالس معنا فيها يجب أن يقدم التحية العاطرة المباركة للحبيب محمدٍ، وتحيتنا إليك -يا سيدي يا أبا القاسم يا رسول الله- هي الصلاة والسلام عليك.
“لم يُفد الشيخُ جماهيرَه علمًا كثيرًا”؛ كذلك قال الذين لا يعرفون العلم إلا حفظًا للمتون وإنْ على هُونٍ، وأخذًا للشروح وإنْ من مطروحٍ، وتحريرًا للحواشي ما دمتَ تُماشي؛ لو كانوا يتعلمون.
لقد أفاد الشيخ -وحده- جماهيره ما لم تفده جمهرةُ مشايخَ ومشيوخاءَ واحدًا؛ علمًا بالله الذي هو خشيته -ملكًا حقًّا- من دون كل ملكٍ، وغيرةً على حرمات الإسلام أن تُطال حدودُها، وصدعًا بمرِّ الحق دون جَمْجَمَةٍ أو ادِّهَانٍ؛ وتلك سماوات العلم؛ لو قلَّبوا وجوههم فيها يبغونها؛ لولَّاهم الله قبلةً يرضونها.
لم يلقِّن الشيخ عامة الناس خاصَّ العلوم؛ لكنه ملأ قلوبهم فقهًا بغاياتها؛ عرَّفهم أن حق العلم بربهم إفراده بالحاكمية على خلقه، وأن حق العلم بنبيهم إفراده بالاتباع من دون كل إمامٍ، وأن حق العلم بالإسلام إفراده بالفوقية على كل شريعةٍ وضعيةٍ؛ يسرًا على يسرٍ كل ذلك، قَعَدَ المتقعِّرون.
ولئن حفظ الله -عزَّ ثناؤه- به في الصدور عقائد للإسلام وشرائع؛ فقد حفظ له في السطور تفسيرَه الكريم كتابَه المجيد، مع ما أفاض -بفضله- عليه في بيانهما من (فحولةٍ وسهولةٍ) فيضًا عجبًا.
أقام الله به الحجة على كل مداهنٍ خوَّارٍ سببًا، وجعله بين لاحقيه وسابقيه في الحق نسبًا، وحفظ بسبيله عروة الحماسة أن تُنقض، وبارك ببضاعته سوق الحمية أن يَنفضَّ.
“الحمد لله؛ لم يأمر الخطيب اليوم بمنكرٍ، ولم ينه عن معروفٍ”؛ أفلح من وجد لها اليوم موضعًا، وعمَّا قليلٍ -ما رتع الطاغوت- نقول: “لم يأمر الخطيب بكفرٍ، ولم ينه عن إيمانٍ”.
كان -شكرَه الله- غصةً في حلوق الطاغين، وشوكةً في لَهَوات الفاجرين، يَحذرون -حين لا يَحذرون بأس الله- بأس بيانه على رؤوس الناس؛ فتطير حروفه بالعار فيهم كل مطارٍ.
أما تمزيقه عمائم الرجس البيضاء -إلا في عينٍ كشف الله غطاها فسوداءَ تراها- فالليل والنهار خِلْفَةً يشهدان؛ كان يصرخ فيهم فيسمعه كل شيءٍ إلا هُم، “وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ”.
يا معشرَ العلماءِ يا ملحَ البلدْ ** ما يُصلحُ الملحَ إذا الملحُ فسدْ
رقى منبره -بعد الثورة- شيخٌ يشير إليه العميان بالبنان؛ فاجتاحت نفسي نخوةٌ على المقام المهيب، وقلت نحو قول أبي جهلٍ في شيخ جهالةٍ: لقد ارتقيتَ مرتقىً صعبًا يا خويدم الطاغوت.
“الذين يغضبون لمحارمي إذا استُحِلَّت؛ كما يغضب النمر إذا حَرِبَ”؛ وعدهم الله -كما بلَّغ رسوله- بنصيبٍ من ظلِّه يوم الحرور، فأما الباردة دماؤهم بطول الرُّقاد في فُرُش الجبارين، الذين حُمِّلوا أوزارًا من لُعَاعَات الجاهلية الدنيا؛ فبصراء!! آثروا ظلال الزقوم على ظلال طُوبى، وأما الشيخ الفاقه البصير فعَجِل إلى الله ليرضى؛ لا يستويان -ما لم تستو الظلمات والنور- ولا يلتقيان.
لم يخطر على قلبي حديثٌ عن الإمام، صان الله المقام عن عبث الغلام؛ لكنه حرفٌ تكلم به يومُ الجمعة وفاءً لشيخها، في صمت نفوسٍ تضيق -كل أسبوعٍ- بضجيج الأقزام ذرعًا؛ إلى الله المشتكى.
ضراعاتنا في الشيخ المبجَّل -يوم الجمعة المعظَّم- أن يهبه ذو الجلال والإكرام -من لدنه- ثلاثًا؛ لسانَ صدقٍ في الآخرين كما قَسَمَ له -سبحانه- من لسان الصدق، وعلوًّا في مدارج الفردوس كما أعلى -تعالى- كعبَه بالحق، ثم افتح -ربَّنا- على نور وجهك الكريم عينَه التي أعميتها عن دنايا الخلق.
أيها السادة الأعزاء؛ من الغني؟ من الولي؟ من العلي؟ من القوي؟ من الواحد؟ وحِّدوا الواحد.