“لا تنسَ أخاكْ * ترعاهُ

“لا تنسَ أخاكْ * ترعاهُ يداكْ”؛ مبناها وصية أمك بأخيك، ومعناها وصية الله بكل أخٍ لك.

أخوك أحوج إليك عاصيًا من حاجته إليك طائعًا، وأنت أحوج إليه غدًا من حاجته إليك اليوم.

انظر إلى آثار رحمة ربك -جلَّ جلاله- في أبويك آدم وحواء -عليهما سلامه- وقد عصياه! ثم سل فؤادك؛ إن يكُ هذا فعل ربي بأبويَّ وهما موصولان به؛ كيف فعلي بأخي إذا انقطع عن الله؟!

“وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ”؛ سبحانك اللهم!

“وَنَادَاهُمَا”؛ يا كلَّ ما في كلِّ صفات ربنا من جلالٍ وجمالٍ؛ في هذا الحرف الودود الرفيق!

كيف ناداهم وقد عصوه بعد مخصوص إنعامه؟! أم كيف ناداهم وقد جرَت زلَّتهم في جواره وإكرامه؟! كيف وهم الفقراء إليه وهو الغني عنهم؟! كيف وهو من لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم؟!

ناداهم لأنه لا ملجأ لهم منه إلا إليه، ناداهم لأنه ليس لحسراتهم بعد معصيتهم مُطفئٌ إلا برد كلامه، ولا لوحشة أرواحهم بعد وجع خطيئتهم إلا شفاء أنسه، ولا لقلق أفئدتهم بعد غربة بعادهم سكنٌ إلا بالاجتماع عليه، ولا لافتقار نفوسهم بعد جفائهم إلا الغِنى بإبهاجه؛ ناداهم لأنه هو وهُم هُم.

“رَبُّهُمَآ”؛ الربوبية إيجادٌ وإعدادٌ وإمدادٌ وإسعادٌ؛ إيجادهم للعبادة؛ فإذا ضلوا عنها أو عجزوا دونها ناداهم هاديًا ومعينًا، وإعدادهم لما أُوجدوا له؛ فإذا أحدثوا وغيروا ناداهم مبدئًا ومعيدًا، وإمدادهم بالأسباب الباطنة والظاهرة المعينة لهم؛ فإذا قصَّروا فيها نظرًا أو عملًا ناداهم جابرًا وكريمًا، وإسعادهم بالعفو عن إساءتهم وبالمثوبة على إحسانهم، فيعرِّضهم لذلك بندائه غفورًا شكورًا.

“أَلَمْ أَنْهَكُمَا”؛ عتابٌ لطيفٌ أخَّاذٌ من ربٍّ حليمٍ رحيمٍ، فيه تبصيرٌ بقدره الأعلى ومقامه الأسمى، مُسَبَّحٌ أمرُه وإن خالفه عباده جاهلين، مُقَدَّسٌ نهيُه وإن قارفه عباده ظالمين، وله العُتبى حتى يرضى.

“عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ”؛ ذكَّرهم ثانيًا بما نهاهم عنه أولًا؛ ليعرفوه بعد إفاقتهم معرفةً جديدةً، وليتبينوا حقيقته هذه المرة بعين الله لا بعيونهم؛ فيحذروه حذرًا شديدًا، ويعتبروا في أمثاله من مناهي الله.

“وَأَقُل لَّكُمَآ”؛ نَبوء لك اللهم بمُحْكَم هداك، ما فرَّط ربنا في هدانا من شيءٍ، شهدنا أن الله قال لنا وقال، وفعل لنا وفعل، جميلًا جزيلًا، أما ما في “لَّكُمَآ” من رفقٍ وحنانٍ؛ فشيءٌ يعيا عنده كل بيانٍ.

“إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ”؛ لأنه -سبحانه- وليهم، ولأن ولايته لهم أكمل الولايات؛ عرَّفهم بعدوه وعدوهم، وكما بين لهم ذلك قبل معصيته بين لهم بعدها؛ تلك رحمةٌ وسعت بحقٍّ كل شيءٍ.

ولو أنه -تعالى- قال: إن الشيطان عدوٌّ مبينٌ؛ لكفى؛ لكنه قال: “إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ”؛ فأفادت “لَكُمَا” في جهته -عزَّ ثناؤه- وفي جهة عباده ما أفادت؛ فأما عن الله فإن عداوة الشيطان مهما بلغت لا تضره -عليًّا كبيرًا- شيئًا، وأما عن عباده فإن اتخاذهم الشيطان عدوًّا نفعٌ لهم، وضرر موالاتهم إياه عليهم، كما أن فيها من رأفة الله بتحذيره عبادَه عدوَّهم شيئًا عظيمًا؛ فسبحان الله الحميد المجيد!

ذلكم الله مولانا الكبير، وذلكم فعله الكريم بمن عصاه، وإن له لَلْخلقُ والأمرُ وحده؛ ما فعلُ عبدٍ ليس له من الخلق والأمر شيءٌ بعبدٍ أخيه إذا عصى؟! إلى الله شكوى خلائقنا في مخالقة خلقه.

نادُوا على العصاة رؤفاءَ رحماءَ كما نادى الله، وعاتبوهم عتاب المحبين المشفقين كما عاتب الله، وعرِّفوهم قدْر الله كما فعل الله، وبينوا لهم ما خالفوا من أمرٍ أو قارفوا من نهيٍ كما بين الله.

من تعلق بصفةٍ من صفات الرب تعالى؛ أدخلته تلك الصفة عليه، وأوصلته إليه؛ فمن أرشد العصاة حيارى أرشده الله كلَّ حيرةٍ له، ومن أعانهم عجزةً أعانه الله كلَّ عجزٍ منه؛ “جَزَآءً وِفَاقًا”.

أما رسول الله فليس كمثل أنفاس رحمته بالعصاة شيءٌ، أرحب من جوِّ السماء وأوسع من عرض الأرض، جعله الله مآبهم إليه ومتابهم، وشهادته: “وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ” حسبه وحسبهم.

ثم جعل لهذه الأنفاس الشريفة من خاصة المؤمنين وُرَّاثًا بررةً، أسندهم الرحمن بمرحمات قلوبهم إلى متن رحموت نبيه الرحيم؛ أولئك الصالحون -بحظهم من الجمال- للبلاغ عنه في الخلق، والجهاد -ببختهم من الندى- في سبيله في الأرض، والحُكم -بنصيبهم من التَّحنان- بشرعته في العالمين.

يا وُرَّاث أنفاس رسول الله؛ أقبلوا بقلوبكم على المدبرين، وأضيئوا من نفوسكم للشاردين، خالقوا المذنبين بما تحبون أن تُخَالَقوا به مذنبين، ولَمَن حفظ حدود الله إن ذلك لَمِن عزم الأمور.

أضف تعليق