“قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ”.
هل يأذن الفراعنة بالإيمان بالإله الواحد؟!
هل يكون الإيمان إيمانًا إذا أذن به الطواغيت؟!
كيف خطر على بال فرعون أن يسأل السحرة ذلك؟!
أليس فرعون هو مدَّعيَ الربوبية؛ “أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى”؟ زاعمَ الألوهية؛ “مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي”؟ منتحلَ الأسماء والصفات؛ “أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي”؟
ما لفرعون -الآن- وقد غزا الإسلامُ قصرَه؛ لا يرى به غضاضةً إذا استأذنه أهله فيه؟!
إن حقيقة موقف الجاهلية من الإسلام واحدةٌ لا تتبدل؛ “الإباء بلا ترددٍ، والحرب بلا هوادةٍ”؛ لكنَّ الإسلام إذا ظهر بسنن الله الغالبة قدَرًا مقدورًا في الناس والأرض والحياة، وفشلت كل خطط أعدائه أن تئده في منبته؛ لم تعد الجاهلية سيرتها الأولى؛ “استئصال شأفة الإسلام وأهله”؛ بل تزين لأربابه صورةً أخرى مأذونًا بها؛ صورة إسلامٍ تسمح لهم -حتى إشعارٍ آخرَ- ببعض شعائره الظاهرة المحبَّبة؛ لكنه إسلامٌ مفرَّغٌ من حقيقته الثورية على الكفر دقيقه وجليله، المجاهدةِ للطغيان جذورًا وثمارًا.
إنك لتحَار من بناء الجاهلية مسجدًا للنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وصَحبه ينزلون فيه -قبل تبوك- “ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ”! كيف تمكر الجاهلية بالإسلام في مسجدٍ؟! كيف تتخذ من أعظم معاقده قاعدةً لحربه؟! الجواب هو هو؛ إذا ظهر الإسلام بسنن الله الغالبة قدَرًا مقدورًا في الناس والأرض والحياة، وفشلت كل خطط أعدائه أن تئده في منبته؛ لم تعد الجاهلية سيرتها الأولى؛ “استئصال شأفة الإسلام وأهله”؛ بل تحاربه من داخله، وتكيده بوسائله.
وإن تكن الجاهلية أسست للإسلام -أولَ أمرِه- مسجدًا ضرارًا تنفذ لأهله منه، والمسجد هو ما هو ظهورًا في إسلاميته ورمزيته؛ فلا تسل -اليوم- عن جامعاتٍ تُنسب للإسلام وهي ضرارٌ، وهيئاتِ فتوى ضرارٍ، ومجامعَ علميةٍ ضرارٍ؛ ومراكزَ بحثيةٍ ضرارٍ. إن جاهلية اليوم لتقدِّم للمسلمين صورة “دينٍ ضرارٍ” تامِّ البنيان بدلًا من دينهم، مقاصده مقاصد بنيانهم الأول؛ “ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ”؛ لكنَّ الوحي الذي عصم الله به نبيه -صلَّى الله عليه وسلَّم- والذين آمنوا معه؛ غفل عنه -اليوم- أكثر الأتباع فتاهوا، والنفر الذين بعثهم رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لهدمه يومئذٍ؛ خلفتهم خلوفٌ تستأذن فرعون أن تصلي فيه؛ وإلى الله تُرفع الشكوى.
انظر المسافة بين إعراض السحرة -حدثاءَ عهدٍ بإيمانٍ- عن ترغيب فرعون الخفيِّ وترهيبه الظاهر؛ “آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ”، وبين قبول زُمَرِ شيوخٍ شابت لحاهم في الإسلام -اليوم- صورًا مبدَّلةً للإسلام؛ طَورًا يعرضها نوَّاب الجاهلية العالمية عليهم عرضًا، وطَورًا بعده يفرضونها فرضًا.
وإن تدهش فمن طائفةٍ تستنكر -اليوم- صورة إسلامٍ جديدةً تفرضها أمريكا -بالسيف- في ولايتها السعودية (إحدى ولاياتها الخليجية)؛ بنيابة غلامها المدلل “محمد بن سلمان” لأغراضها الجديدة؛ وقد طوَّعت للناس صورةً قديمةً فرضها آباؤه -بالذهب- لأغراضٍ قديمةٍ! فلئن كانت الصورة الجديدة من هذه المضغة القذرة -اليوم- عُهْرًا؛ فما جعلها في أصلاب آبائه الماردين -بالأمس- طُهْرًا؟!
إنا على الوجع الفاتك بنا إذ نشهد فتنة المسلمين عن دينهم بالرَّغَب والرَّهَب هناك؛ لمستبشرون بظهور الشيطان على صورته؛ فإن إغواء الناس بصوت شيرين عبد الوهاب؛ أهون من إضلالهم بصورة محمد بن عبد الوهاب، وإن خلط النساء بالرجال يتمايلون في حفلات تامرٍ؛ أدْوَن من سَكينتهم مفصولًا بينهم في مجلس شيخٍ مقامرٍ، وإن دعاء الغراب البطين بطول أعمار الطغاة في محراب البيت الحرام؛ أشنعُ في السماء من غناء مطرب رابٍ أمريكيٍّ يضطرب اضطراب النُّطَفِ الحرام.
“الإرهاب كل ما لا تحبه أمريكا ولا ترضاه؛ من الأقوال والأعمال؛ الباطنة والظاهرة”؛ أليس كذلك؟ فإن أمريكا أذنت لأهله بذروة سنامه “الجهاد”! يومًا من الأيام؛ خطًّا من خطوطٍ عدةٍ سعت بها حثيثًا -وقتئذٍ- في مجابهة القطب الروسي، ومن قبلُ قدَرًا من أقدارٍ عدةٍ لرب العالمين في إدالة الدُّول.
هل تصدق بأنه كان يُدعى للجهاد على المنابر، وتُجمع له الأموال، وتُحرَّض عليه الهمم؟ كان بالأمس القريب كل ذلك وغيره -صُراحًا بَواحًا- بإذنٍ من فرعون البيت الأبيض لغرضٍ من أغراضه؛ فاليوم لا غَرْوَ إذا حارب الفرعون نفسُه الجهاد -وإن كان معنىً باهتًا في فؤاد فتىً أشعثَ أغبرَ مغمورٍ مطمورٍ رابضٍ في زاويةٍ من زوايا داره- وقد انقضى له غرضُه؛ “فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ”.
لم تكن أمريكا بالأمس -كما لا تكون حتى تزول- ذاتَ العرش المجيد، ولا الفعَّالةَ لما تريد، ولا هي التي تبدئ في الأرض وتعيد؛ “بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا”؛ لكنَّ المليك الحق -جلَّ ثناؤه- قسَم لها -بجملةٍ من سننه الدَّوَّارة في خلقه- من الهيمنة ما شاء، مبتليًا بها من شاء، فهدى وأضل من شاء؛ عزيزًا حكيمًا.
يا أيها الحر بعبوديتك للإله الأحد، العزيز بالذلة للرب الأعلى؛ قل: يا أيها النظام العالمي؛ “قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ”، وأشهدنا على آثاركم؛ كل إيمانٍ يأذن به وكلاؤكم هو مطيةٌ إلى الكفر بالله ربي، وكل ناقةٍ لا يكيد لعقرها نُوَّابكم فليست ناقةً لصالحٍ رسولي؛ “وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَدًا”.