“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست،

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”.

لا يصيب شيطانٌ من عبدٍ مرادَه كما يصيب بهذه العناوين، ولا تزال بصاحبها حتى يكون كذلك، وأبعدَ من ذلك، ولقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدَنا أن يقول: “خبُثت نفسي”، وليقل: “لَقِسَتْ نفسي”، مع أن الفرق بينهما يسيرٌ من جهة المعنى؛ لكنه عنوانٌ يسجن صاحبه في موضوعه.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ إذا كان ذلك كذلك؛ فلا عليَّ من كل طاعةٍ أفرِّط فيها، ولا عليَّ من كل معصيةٍ أقارفها، ولا عليَّ إذا هجرت الأبرار لئلا أدنِّسهم بآثامي التي لا يعرفونها، ولا عليَّ إذا صاحبت الفجار الذين صرت لهم شبيهًا، ولا عليَّ إذا لم أحمل للإسلام همًّا ولأهله قضيةً.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ هذه العناوين من جملة مداخل الشيطان “اليمينية” إلى قلوب المؤمنين، والمداخل اليمينية هي التي قال فيها اللعين قديمًا: “وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ”؛ أي من جهة الحق والخير والإحسان، وهي أضرُّ على العبد -لخداع فتنتها- من مداخل الشيطان “الشِّمالية” الصريحة.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ صورة يأسٍ خفيٍّ من رَوْح الله، وقنوطٍ مستترٍ من رحمته ومغفرته، مهما ألبسها صاحبها -واعيًا أو غير واعٍ- لَبُوس الحطِّ من نفسه وسوءِ الظن بها.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ إن إزراء العبد بنفسه من شواهد عبوديته؛ لكنه إذا بلغ ذلك كان سوءًا مستطيرًا، ومَرْكَبًا للشيطان من النفس إلى بلوغ الكفر بالله، ما الكفر بالله -هنا- دقُّ الصُّلبان، ولا إنكار وجود الرحمن؛ بل ركوب الموبقات جملةً، وترك الفرائض جملةً، مع موالاة الفاسقين فالظالمين فالكافرين على خطواتٍ متتابعاتٍ، ولقد سمعنا حتى وَجِعْنا وأبصرنا حتى أقصرنا.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ فأنَّى لغارقٍ مثلي أن يأمر بمعروفٍ أو ينهى عن منكرٍ؟! وجَهِل هذا المسكين أن من أوسع أبواب نجاته من ظلماته؛ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، ودونكم هذه الدرة النادرة لشيخ الإسلام ابن تيمية يحكيها صاحبه ابن القيم -رحمهما الله- قال: “انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه؛ رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجرَّ بلحية نبيٍّ مثلِه وهو هارون، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ورفعِه عليه، وربه تعالى يحتمل له ذلك كله، ويحبه ويكرمه؛ لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدوٍّ له، وصَدَع بأمره، وعالج أمَّتَي القبط وبني إسرائيل أشدَّ المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر. وانظر إلى يونس عليه السلام؛ حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى، غاضب ربه مرةً، فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى”.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ يخبرك الإسلام عن زيادة إيمان عبدٍ حتى لكأنه يرى الله، وعن نقصان إيمان عبدٍ حتى لكأن الله -تعالت إحاطته- لا يراه؛ لكنه لا يقضي بهذه العناوين الكلية على عبدٍ قضاءً؛ إلا عبدًا تنكَّب سبيل الله باطنًا وظاهرًا، وأحاطت به بوائقه على القبول والرضا.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ تكشف وزن الخلل الشائع في معنى الاستقامة عند عامة المسلمين، وما الاستقامة -عند الله ورسوله- إلا جهاد العبد نفسَه باطنًا وظاهرًا على الثبات في الأمر، فإن فرَّط في طاعةٍ أو قارف معصيةً جاهدها في التوبة والإنابة، لا يضيره شيءٌ ما بقي كذلك.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ حيلةٌ نفسيةٌ غير واعيةٍ لمداراة القعود عن معالي الأمور، والرضا بالخسف، والتصالح مع البطالة، ولو فقه قائلوها ما قالوها. وبالله السلامة والسداد.

أضف تعليق