لا أعجبَ من مُعرِّضٍ نفسَه

لا أعجبَ من مُعرِّضٍ نفسَه للفتن شهواتها وشبهاتها؛ طوعًا واختيارًا!

أوليس حسْبنا ما يُطَوِّقنا من أنواع الفتن التي لا حيلة لنا في التعرُّض لها!

عُصِم عبدٌ أقام بينه وبين الفتن جُدُرًا، ثم هو يُعْلِيها كل يومٍ درجاتٍ.

ما خوَّفَتني آيةٌ في القرآن؛ كحكاية الله عن المؤمنين جوابَهم عند الصراط المنافقين لما سألوهم: “أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ”، فقالوا لهم: “بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ”. ليس المفتونون بالشهوات والشبهات سواءً، من المفتونين أقوامٌ يفتنون أنفسهم بأنفسهم، فإنهم لأشباه المنافقين، وإن الحياة الدنيا إذا صلُحت للجمع بين المؤمنين والمنافقين لتشابههم في الصُّوَر؛ فإن الآخرة لا تَصلح إلا للتفريق بينهم لاختلاف الحقائق، وما اختلاف الحقائق بين المؤمنين والمنافقين إلا لاختلاف شأنهم في الفتن؛ هؤلاء يفتنون بها أنفسهم، وأولئك منها يفرُّون، وإذا أصابت منهم شيئًا إذا هم لربهم تائبون، لا يُصِرُّون عليها وهم يعلمون.

سبحان الرحمن! كم بين شيخ المحسنين يوسف عليه السلام- وهو نبيٌّ ابن نبيٍّ ابن نبيٍّ- يوم لاذ بالله من فتنةٍ واحدةٍ سعت هي إليه، يصرخ في وجهها صرخة العفاف “مَعَاذَ اللَّهِ”، وبين مسارعٍ اليوم في أنواع الفتن؛ يركُض إليها، ويعكُف عليها، ويطوف حواليها، يحسب أن كل مرَّةٍ ستَسلم الجَرَّة! أفاتَّخذ المسكينُ عند الله عهدًا فلن يُخلف الله عهده أنه يُسَلِّمه ويُنَجِّيه! أم قد بات من اللاعبين!

“ستكون فتنٌ؛ القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الساعي، ومن يُشْرِف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأً أو مَعاذًا؛ فليعُذ به”.

انظر كيف جعل نبيُّك -صلى الله عليه وسلم- مدار الخيرية على التقييد! كلما كنت أشد تقييدًا لنفسك في الفتن؛ كنت أقرب إلى السلامة منها، ثم انظر حالك!

“من سمِع بالدجال؛ فلْيَنْأَ عنه؛ فوالله إن الرجل ليأتيه -وهو يحسب أنه مؤمنٌ- فيتبعه؛ لِمَا يُبعث به من الشبهات”؛ هذا كلامٌ يقوله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه الذين صنعهم الله لصُحبته على عينه، واصطنعهم لنفسه!

ما عسى نذيرُ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول اليوم للمتعرِّضين للفتن شهواتها وشبهاتها -مقروءةً ومسموعةً ومرئيةً- لا يُبالون بنارها ولا يخافون عُقباها!

“أَمُتَهَوِّكُون فيها يا ابن الخطاب!”؛ قالها محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- لعمر -رضي الله عنه- حين رأى في يده قطعةً من التوراة، ما يحاذِر عليه إلا الفتنة!

يقول هذا القول الغليظ لعمر وهو القائل له يومًا: “إيهًا يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده؛ ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا قطُّ؛ إلا سلك فجًّا غير فجِّك”! يقوله لعمر وقد أعلمه الله بوحيٍ من لدنه أنه من الخالدين في فردوسه الأعلى!

“يوشك أن يكون خيرَ مال المسلم غنمٌ يتْبع بها شَعَفَ الجبال (قِمَمَها)، ومواقعَ القَطْر، يفرُّ بدينه من الفتن”؛ نظرةٌ منك عَجْلى في أصل مادة الفتنة (فَتَنَ) في اللسان العربي؛ تُشْهدك حقيقة معناها، فَتَنَ: أحرق. يُقال: فتنتُ الذهبَ بالنار: أي أحرقتُه بها. فكيف إذا أرادت النار دينك! من عرف هذا لم يُتصوَّر منه إلا ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه هذا: “يفرُّ بدينه من الفتن”.

فأما الفاتنون أنفسهم بأنفسهم إذ يُعَرِّضونها للفتن؛ فحسبُهم من أسوأ السوء في الدنيا والآخرة أنهم المُفلتون من يدَي رسول الله، أوليس هو القائل صلى الله عليه وسلم: “مثلي ومثلكم كمثل رجلٍ أوقد نارًا، فجعل الفراش والجَنادِب يقعن فيها، وهو يذُبُّهن عنها، وأنا آخُذ بحُجْزِكم عنِ النار، وأنتم تفْلِتون من يدَيَّ”!

ويح المُعَرِّض نفسه للفتن؛ يجذبه رسول الله بنفسه من معقِد إزاره مخافة النار عليه، وهو يأبى إلا اقتحامها! فلئن فعل ذلك في الدنيا؛ فقد استوجب في الآخرة جزاءً من جنس فِعله؛ “لأَذُودَن رجالًا عن حوضي؛ كما تُذاد الغريبة من الإبل عن الحوض”، فما هؤلاء الذين يدفعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة عن حوضه الشريف بيديه؛ إلا من أفلتوا منهما في الدنيا هازلين.

قال قائلٌ: أما اجتناب الشهوات فاللهم نعم، قد أظهر الله للقاصي والداني ألوان فتنتها؛ فما بالك تحذِّرنا مطالعة الشبهات! ألسنا على الحق المبين يقينًا!

بلى يا حبيبي؛ دينك الحق وحده لا شريك له بين أديان الأرض الباطلة جميعًا، وما حذَّرتك مطالعة الشبهات مخافة قوتها هي، بل مخافة ضعفك أنت. ما حظُّ نفسك من هذا الدين علمًا وعملًا! ما نصيب قلبك من الطمأنينة به واليقين فيه! ما قَسْم عقلك من الثقة به والتمكن فيه! ملأني الله وإياك بالإسلام مَلْوًا.

قال: قد وعيت هذا، أحرَزني الله وإياك من الفتن؛ فهل لشيءٍ سواه تحذِّرني؟

نعم حبيبي؛ إن العبد لا يختار الذنب والعقوبة جميعًا، له اختيار الذنب ولله اختيار العقوبة، يختار العبد في الذنب خمسًا؛ نوعَه، وقدْرَه، وزمانَه، ومكانَه، وأسبابَه، ويختار الله في العقوبة خمسًا؛ نوعَها، وقدْرَها، وزمانَها، ومكانَها، وأسبابَها، وكم من عبدٍ جعل الرحمن عقوبته في دينه! فحال بينه وبين قلبه، فعُسِّرت عليه الطاعة، أو يُسِّرت له المعصية، أو تمكنت منه شهوةٌ، أو أحاطت به شبهةٌ، وتلك واللهِ العقوبة لا عقوبة مثلها. واغوثاه مولاه! لا تجعل مصيبتنا في ديننا.

يا حبيبي؛ إنما أعظ نفسي في نفسك، لستُ مؤمنًا حتى أحبَّ لك ما أحبُّ لي.

أضف تعليق