“استووا واثبتوا؛ حتى أُثني على ربي عزَّ وجلَّ”.
هذه عبارةٌ محمَّديةٌ من حديثٍ مَهيبٍ، لم يزل يأخذ بمَجامع قلبي كلُّ حرفٍ فيه مُذْ بلغني، حتى إنه ليفعل فيَّ الأفاعيل، وكم حدثتُ نفسي بالتعليق عليه لجلال هذه الكلمة منه بخاصَّةٍ ثم لجميع ما فيه بعامَّةٍ، فيُنسيني الرجيم ولُعِن!
“استووا واثبتوا؛ حتى أُثني على ربي عزَّ وجلَّ”.
عن رِفاعة بن رافعٍ -رضي الله عنه- قال: لمَّا كان يومُ أُحُدٍ، وانْكَفَأ المشركون؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: “استووا واثبتوا؛ حتى أُثني على ربي عزَّ وجلَّ”، فصاروا خلفه صفوفًا، فقال: “اللهم لك الحمد كلُّه، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لما هديت، ولا معطى لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من فضلك ورحمتك وبركتك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العَيْلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذٌ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك إلهَ الحق، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إلهَ الحق”.
“استووا واثبتوا؛ حتى أُثني على ربي عزَّ وجلَّ”.
يا لها عبارةٌ يتقاصر التفكير مهما طوَّف في برِّ الأرض عن تَخَايُل جلالها، ويتضاءل التقدير مهما حوَّم في جوِّ السماء عن تَوَهُّم جمالها! سبحان ملهِمِها وتقدَّس!
“استووا واثبتوا؛ حتى أُثني على ربي عزَّ وجلَّ”.
أصاب الإسلامَ من ظنون المشركين فيه بعد هزيمة الأصحاب ما أصابه،ودَهَى العُصبةَ المؤمنةَ الوحيدةَ في الأرض من أنواع الدواهي ما دهاها، وقد كان الله أراهم من عدوهم قُبَيْل الهزيمة ما يحبون، فتضاعف الإحساس بالهزيمة.
“استووا واثبتوا؛ حتى أُثني على ربي عزَّ وجلَّ”.
إن الثناء على الرب -سُبُّوحًا قُدُّوسًا- بما يليق به من بدائع التسابيح والتحميد، وبما ينبغي له من روائع التماديح والتمجيد؛ لَغايةٌ مقصودةٌ لِذاتها في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ليَجمع لأجلها أصحابه لم يجمعهم إلا لذلك، لتتأهَّل قلوبهم لعظمة مقامه بتأهُّل جُسومهم بالاستواء والتثبيت.
“استووا واثبتوا؛ حتى أُثني على ربي عزَّ وجلَّ”.
وفي تسوية النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه للثناء على الله بعد الذي أصابهم؛ آيةٌ تقول: لئن هُزمتم من عدوكم في صورة الأمر فهَرَعْتم إلى ربكم تُجدِّدون بين يديه عَقد التوحيد بتسبيحه وتحميده، وبدعائه والتضرُّع إليه؛ إنكم في حقيقة الأمر منتصرون. وتقول: لا تُكْسَرُ نفوسُكم وأنتم بدِين ربكم موقنون، وعليه بالذي هو أهلُه مُثْنون. وتقول: ليس كمِثل الله عليمٌ بذات صدوركم وما حشاها من الحُزن، ولا كمِثله قديرٌ على إبدالكم به فرحًا وسرورًا، وإنه لا أَسَرَّ لكم من أن تُثنوا على الله بما يحب فيُسعدَ نفوسكم بما تحب. وتقول: لئن رجع أعداؤكم بعد ظفرهم بكم وهم كافرون؛ فقد رجعتم بالإيمان وأنتم عن مصيبة الهزيمة بالله مشغولون. وتقول: ما كان انتصاركم على عدوكم -لو حصل لكم- إلا وسيلةً لإقامة عبوديتي في الأرض؛ فها أنتم باستوائكم لتدْعوني تقيمونها؛ فإن دعائي هو عبادتي. وتقول: إن الذي قام بقلوبكم من الخشوع وبأعناقكم من الخضوع -وأنتم بالهزيمة كاظمون- لأحبُّ إليَّ وأرضى لديَّ وأكرمُ عليَّ.
“استووا واثبتوا؛ حتى أُثني على ربي عزَّ وجلَّ”.
إن اجتماع المؤمنين واستواءهم للثناء على ربهم وهم على تلك الحال الشديدة من الهزيمة؛ لشهادةٌ على رواسخ التوحيد في قلوبهم وتمكُّن الإيمان منها، لا تقلُّ درجةً عن شهادة الذين قُتلوا حقيقةً في سبيل الله من إخوانهم في المعركة.
“استووا واثبتوا؛ حتى أُثني على ربي عزَّ وجلَّ”.
في أي دينٍ سوى الإسلام هذا يا بَني الإسلام! قومٌ يهزمهم عدوهم، ثم يُصْرَفون عما بين أيديهم من آثار الهزيمة النفسية والحسية التي يُعاينونها بالثناء على ربهم ودعائه! يجدون في حضرة الله ما فقدوه في الأرض من حقيقة النصر.
للحديث عن سائر جلائل الحديث مقامٌ غير هذا؛ أستعين ربي عليه خيرَ معينٍ.