#في_حياة_بيوت_المسلمين. النَّشرة؛ في بلاسم (داء

#في_حياة_بيوت_المسلمين.

النَّشرة؛ في بلاسم (داء العشق) العشرة.

* من حدَّثك عن شرٍّ مطلَقٍ في الكون غيبِه ومشهودِه؛ فكذِّبه، حتى إبليسَ الذي نرجُم والطواغيتَ اللائي نلعن في الدنيا، وجهنمَ الهاويةَ وأهوالَ العذاب الشاويةَ في الآخرة؛ ليست شرورًا محضةً، بل إن ربك ليُظهر بوَفرة أقداره فيها من بديع أسمائه والصفات وعظيم سُننه والآيات وجليل حِكَمه والغايات؛ ما لم يكن ليتجلَّى للخلائق في الدَّارين إلا بها، وطالبُ المغانم في الدنيا بلا مغارم كرائي المغارم فيها بلا مغانم، والجنة -وحدَها لا شريك لها- دار المغانم بلا مغارم، ولأجل استئثارها بهذا القانون سمَّاها بارئُها دار السلام. إذا حدَّثتك بهذا قبل مقالٍ قرأتَ عنوانه في الاستنقاذ من حُفرة العشق المُرِيعَة؛ فلا تحدِّثني بعد فراغك عن حسنات العشق؛ فإني بها خبيرٌ بصيرٌ. يقولون: إنه يُلَيِّن الفؤاد القاسي، ويُطَوِّع الجواد العاصي، ويُنْزِل عاتيَ النفس من الصَّياصي. وإنهم لصادقون، غير أني لم أستبح وقتك وقوَّتك -وقد علمتُ عصمتَهما- لأكشف السافرات وأُقرِّر المقرَّرات، إنما أجترئ عليهما لِمَا به الإحسانُ إليهما؛ فهَلُمَّ إلي واصبر علي، ليس هذا بأول إكثاري عليك ولا بآخر حِلمك علي، لكني وإياك شقيقان لا يفترقان.

* من ابتُلي بالعشق؛ فلا يستفت فيه قلبه، ولا يختصم إليه؛ فإن قلبه -ما دام عاشقًا- شيخٌ مضلٌّ لا يهديه إلا للتي هي أعوج، وسلطانٌ جائرٌ لا يقضي له بفِكاكه من محبسه، وأنَّى يكون له هاديًا مقسطًا وفيه الخصومة!

* قديمًا قالت العرب العباقرة: شر قتيلٍ قتيل النساء، وأيُّ فرقٍ بين مقتولٍ بسيفها، وبين مقتولٍ بعشقها! العشق مقبرة القلوب، ومن عشق من لا يستطيع وصاله قدَرًا أو كان محظورًا عليه شرعًا؛ فقد وَأَدَ بنفسه قلبه، وإنما قلبك حياتك، كم أخشى على قلوبٍ قتَلها أصحابُها عامدين غدًا من: “سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ”! حسْبُ العاشق جحيمًا أن روحه التي هو فَلَكُها؛ مَوَّارةٌ في فَلَك غيره.

كعصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يَزُمُّها ** تذوقُ عذابَ الموتِ والطفلُ يلعبُ

فلا الطفلُ ذو عقلٍ يَرِقُّ لِمَا بها ** ولا الطيرُ ذو ريشٍ يطيرُ فيَذهبُ

* صِدق القلب في الخلاص من العشق؛ فإن الله لا ينجِي الكذَبة قلوبُهم، الذين يستغيثونه بأفواههم مما مُصِرَّةٌ عليه قلوبُهم، ولو صدَقوا الله لكان خيرًا لهم، لِيسأل المبتلى بالعشق نفسه: هل أنا مريدٌ عافية الله من بلائي حقًّا! ذلك بأن العشق لو كان شقاءً محضًا؛ لسهُل عليه التعافي منه، لكنه إن أضناه من وجوهٍ؛ لذَّذه من وجوهٍ أخرى، فلعله أن يكون كاذب القصد فلا يَصْدُقه الله.

* حُسن تصور مضارِّ العشق في جميع جهات العاشق؛ ضررُه على التوحيد الباطن من إفراد الله بالذل والانقياد والخضوع والاستسلام والتضعُّف والافتقار. وضررُه على العبادة الظاهرة أنواعِها وكَمِّها وكَيفِها؛ فإن العشق أشد المزاحِمات القلبية بإطلاقٍ، ولا تكاد تصفو للعاشق عبادةٌ ظاهرةٌ ما بقي قلبُه أشعثَ الهَمِّ والإرادة. وضررُه على القلب؛ فإن طبيعة العشق ذاتُ هيمنةٍ واستيلاءٍ، والقلب المَلِك، والجوارح جنودٌ وتَبَعٌ، إذا اغتِيل المَلِك لم تبق لبقاء الجنود والتَّبَع فائدةٌ. وضررُه على العقل؛ فإن العشق لا يكون عشقًا حتى يصير بطانةَ المخ كلِّه مستحوِذًا عليه جميعًا، فلا يكاد العاشق يفكر في شيءٍ من مصالح معاشه ومعاده منفكًّا عن عشقه، ولا يزال بصاحبه كذلك حتى يُتلفه إتلافًا فلا ينفعه نفعًا. وضررُه على النفس؛ فإنه خاسفٌ بها بشديد الهُون إلى حضيض الدُّون، حتى تبيت سافلةً لا تَذكُر للمعالي معنًى، وجاعلُها أحاديث يمزِّقها كل ممزَّقٍ. وضررُه على الجسد؛ فإنه الصورة الظاهرة لحقيقة النفس الباطنة، فإذا فسدت النفس فسد الجسد، وهذا مقرَّرٌ عند أُولي الشريعة والطب والنُّهى من وجوهٍ لا تُحصى. وأيُّ صلاحٍ يُرجى للعبد في دُنياه وأُخراه إذا خَرِب توحيده وعبادته وقلبه وعقله ونفسه وجسده! وما نفعُ الإسلام به بعد هذا وهو كَلٌّ عليه!

* وصف العشق بما يليق به وينبغي له؛ فإنه وإن كان إيثارًا للمحبوب على النفس من وجوهٍ كثيرةٍ جليَّةٍ؛ فإنه أَثَرَةٌ طاغيةٌ عليه من وجوهٍ أخرى؛ فإن غاية هَمِّ العاشق وهِمَّتِه محبةُ المعشوق له ورغبته فيه وإقباله عليه واعتناؤه به، وفي هذا من ألوان الطغيان على باطن المعشوق وظاهره ما لا يخفى، بل إن العاشق ليُزاحم ألوهية ربه في معشوقه شَعر بهذا أو لم يشعر، فحين يدعو اللهُ المعشوقَ أن يصون قلبَه عن محرَّم الوداد ويُحْرِز نفسَه من منهيِّ الوصال؛ يدعوه العاشق إلى ضد ذلك بأحاديث نفسه وأنفاسه، يَعِدُه بفردوس الأرض في جنَّات قلبه -إن هو طاوَعه فدخلها- ويُمَنِّيه غرورًا، وأيُّ خيرٍ ينفع المعشوق من عاشقه في الدنيا كلها إذا هو أفسد عليه قلبه ودينه! فما العشق -حينئذٍ- إلا غرقٌ في النفس خفيٌّ وفناءٌ في الذات مستترٌ، مهما ألبسه العاشق -مفتونًا بمددٍ من نفسه، وعونٍ من هواه، ونصرةٍ من شيطانه- لبوسًا من الحب زائفًا.

* اجتناب مُثَوِّرات العشق ما ظهر منها وما بطن؛ فأما الظاهرة؛ فيمنع العاشق عينَه مطالعة أخبار العشاق وأشعارهم ومصوَّراتهم، وأُذنَه الإصغاء إلى مقالات البطَّالين الفارغين في العشق، وأغاني اللاهين بقلوب الناس لا يعبؤون بها؛ فإنها لا تزال تؤسِّس لبُنيان العشق في قلبه وعقله مزيدًا، وما تؤسِّسه إلا على شفا جُرُفٍ هارٍ، وإذا كانت سنة الله التي لا تتبدل في نجاة العاشق من جحيم معشوقه؛ إيصادَ كل بابٍ يُدخِل عليه، وقطعَ كل وسيلةٍ تُوصِّل إليه؛ فما كان الله ليُرخِّص للعاشق بعد ذلك فيما يُقرِّب إلى العشق من أسبابٍ، ومن أبقى الحبال بينه وبين محبوبه مرخيَّةً؛ فلا يُشْقِ نفسه في سؤال العافية؛ فإن الله لن يرسل إليه جِبرائيل ومِيكائيل يتقاتلان في إنقاذه وهو لا يبالي بهَلَكَته. وأما الباطنة؛ فيجاهد نفسه مجاهدةً يشهد الله لصدقها بنفسه في دفع الخواطر كلما تحرك ساكنها في عقله، فأما إن أسلم نفسه إليها؛ فلا يلومن سواها؛ فما بعد سوانح الخواطر إلا تكثُّف الأفكار، وما بعد تكثُّف الأفكار إلا اجتماع الإرادة، وما بعد اجتماع الإرادة إلا النُّكوص، ولا حول ولا قوة في هذا كله إلا بالله.

* المزاحمة بالطاعات القلبية والقولية والعملية، والأصل في العبادة الابتداء بالقلبيِّ منها؛ فإنها جذور العبادات الظاهرة، غير أن قلب العاشق لما كان مشغولًا بدائه الدَّوِيِّ؛ كان عسيرًا عليه الابتداء في العبادات من قلبه، فلا عليك أن تبدأ أول أمرك بالطاعات الظاهرة؛ أولها وأجلُّها الصلاة، تقيمها على وقتها في جماعةٍ برواتبها ونوافلها، وتجتهد في استِوهاب خشوعها من الله، وتطمئن في أقوالها وأفعالها؛ ليؤتيك المنَّان منها ما وعد بها. وتتلو القرآن الذي ما أُنزل من السماء إلا شفاءً لك ورحمةً، إن أنت أكثرت منه تعجَّلت لنفسك المداواة من دائها، وإن أقللت أبطأت بها على نفسك. وتقوم من الليل ما شئت بالأسحار ميقاتًا، تستغيث في كهف سجودك بربك ومولاك وسيدك؛ أن يُنعش قلبك من بعد خموده بلطيف المتاب عليك، ولا تزال تُلِحُّ على ربك متضرِّعًا لوجهه أن يُطْلق روحك من أغلالها حتى يرأف بضعفك ويرحم عجزك. وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله يصلي عليك كلما صليت عليه، فإذا صلى عليك الله أخرجك من الظلمات إلى النور، وهل عِشقك إلا ظلماتٌ بعضها فوق بعضٍ! وهل طمعك إلا إخراج الله لك منها! فأكثِر أو أقِلَّ. وتستغفر كثيرًا؛ فإن الله ما خلَّى بين قلبك وبين التسلُّط عليه إلا بخطيئةٍ من خطاياك. وتصوم ما استطعت؛ فإن الصوم منعُ النفس عن ملذوذ مباحها، ولا تزال النفس تتعود الكَفَّ والإمساك حتى تنشط فيها إرادة التَّرك، تلك الإرادة التي جعل الله أول امتحان أبويك آدمَ وحواءَ فيها، إذ قال الله لهما: “وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ”. وتُحوقل فاقهًا حقائق الحوقلة؛ لا حول عن سقم روحك ولا قوة على صحتها إلا بالله العزيز الحكيم. ولا تزال الطاعات الظاهرة تحرك -ببركات الله فيها- قيود قلبك حتى يُعتقه الله من إساره، وإن ربًّا يحيي الأرض من بعد موتها لَعَلَى إحياء قلبك قادرٌ مقتدرٌ قديرٌ، كل ذلك في ظلٍّ من إحسان الظن بأرحم الراحمين ممدودٍ، وكفى بالله.

* المكاثرة بالمباحات النفسية والجسدية؛ فإنما الإنسان وعاءٌ واحدٌ، يزاحم بعضُ ما يَدخل فيه وما يَخرج منه بعضًا، ما يزيد فيه من خيرٍ إلا نقص من شره، ولا شرٍّ إلا نقص من خيره، وإن للعشق جملةً اسميةً وجملةً فعليةً، مبتدأ الاسمية الفراغ وخبرها العشق، وفعلُ الفعلية النظر وفاعلها الفراغ، فالفراغ القدْر المشترَك بين الجملتين؛ لذلك كان أصلَ هذا الداء وكل داءٍ؛ فالمكاثرة بالمباحات تشغل من الفراغ نصيبًا، وخير المباحات اللازمة القراءة، قراءة الكتب الشرعية وغيرها من أنواع الكتب مما هو نافعٌ للعقل ومُرَوِّحٌ عنه، ولتبدأ بما لَطُف منها وظَرُف؛ كسِيرة السيد الرسول صلى الله عليه وسلم، وسِير أصحابه رضي الله عنهم، وكتب السِّير الذاتية، والروايات النافعة، وكتب الأدب القديمة والحديثة المجتباة. وعليك بالرياضة؛ فإنها الحركة المقصودة الراشدة، وإنها لبركةٌ على نفسك إذ تعيد إليها الإحساس بقيمتها. وخير المباحات المتعدية مخالطة الصالحين، واجتنب المجهِدين قلبَك منهم مدَّة استشفائك إن لم تقدر على اجتنابهم حياتَك كلَّها. كاثِر يا حبيبي بما ذكرت لك وما تركت مما يُقرِّب إلى الحرية من سجن العشق وأنكاله؛ إني أربأ بك أن يطول رقادك في فراشه فتكثُر سيئاتك وآثارُها السُّوأى، وإنك لمُعافًى يومًا بعزة الله ورحمته، فأكره لك ما أكره لنفسي، أن تنظر خلفك وقتئذٍ فتجد بقعة الظُّلمة التي حبست نفسك فيها طويلًا وافرةَ المخازي، فتقول حينها: ما كان أصغرني! ما كان أرخصني! ما كان أضيقني! ما كان أحمقني! ما كان أشقاني! ما كان أعماني! يا ليتني عجَّلت بنجاتي.

* تأمُّل كلِّيات سيدنا الشافعي -قدَّس الله روحَه- الثلاثة في بديع قوله: “ففي الناس أبدالٌ، وفي التَّرك راحةٌ، وفي القلب صبرٌ”. ففي الناس أبدالٌ: مهما توهَّم العاشق أنه ليس كمعشوقه أحدٌ، وأن خطأه -لو قيل: أخطأ- سدادٌ، وأن غَيَّه -لو رُؤِي غاويًا- رشادٌ، ولعل فيه من شنائع العيوب ما يصد كليل البصر عنه، ومن فظائع الذنوب ما يُنفِّر ضئيل الإيمان منه. وفي التَّرك راحةٌ: مهما توهَّم العاشق أن راحة قلبه محصورةٌ في الوصال، وأرعَبه مجرَّدُ تخايُل البِعاد والانفصال. وفي القلب صبرٌ: من حرك دواعِيَه في قلبه وجده، ومن استسقاه من الله أنبته، وأول مُعينٍ للعاشق على الصبر إيئاسُ نفسه من معشوقه الذي لم يجعله الله له شرعًا ولا قدَرًا، واليأس إحدى الراحتين، وما ضعُف رجاؤك فيه فعَظِّم يأسك منه تَطِب نفسُك، ولا ينفع الصبر إلا مفروغًا، فقل: رب أفرِغ علي صبرًا.

يا حبيبي؛ العشق داءٌ، وفي الصحيح: “ما أنزل الله داءً؛ إلا أنزل له شفاءً”.

أضف تعليق