اللهم اشرح لهذا الحرف الصدور، وافتح به القلوب، واهد عليه دانيًا وقصيًّا.
لو كان شيخ الإسلام حيًّا، وانتخب -صانه الله وزانه- طاغوتًا من طواغيت العرب أو العجم، وخرج على المسلمين يحضهم على انتخابه باسم الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة؛ لسقطت حرمته، ووجب البراء منه، وصارت معاداته أفرض من معاداة الطواغيت أنفسهم، وعُدَّ في ميزان الإسلام كاهنًا من كهان الطواغيت، ولا كرامة من بعد ما ضل وأضل لتاريخ علمه وعبادته ودعوته وجهاده جميعًا. هذا ما لا يرتاب فيه مسلمٌ يعرف ما التوحيد وما الطواغيت طرفة عينٍ، كما لا تضره مخالفة الهمج الرعاع له مهما كثروا مثقال ذرةٍ.
إن انتخاب شيخٍ طاغوتًا من طواغيت العرب أو العجم ودعوته الناس إلى ذلك؛ أغلظ جنايةً عند الله وملائكته ورسله والمؤمنين من إنسانٍ ترك الصلاة وزنا ولاط وسرق وقتل وعق والديه وأكل الربا ومال اليتيم وقذف المحصنات واجتمعت فيه الموبقات كلها، ليست هذه فتوى فقيهٍ من الفقهاء ولا رأي إمامٍ من الأيمة، بل هذا معتقد أهل الإسلام الذين يعتقدون أن الطواغيت منازعون لله في ربوبيته وفي أسمائه وصفاته وفي ألوهيته، وأنهم وكلاء محتلِّي بلاد المسلمين العجم فيما سال من أمور دينهم ودنياهم وما صَلُب، وأنهم من وراء كل بليةٍ في ديار المسلمين بالسلب والإيجاب، وبهم يُساق إلى جهنم كل لحظةٍ زمرٌ من الناس بتغييب شريعة الرب جلَّ ثناؤه، وفرض شرائع الجاهلية في جوانب الحياة كلها بالحديد والنار، ومحاربتهم الإسلام عقائدَه وشرائعَه وآدابَه بأنواعٍ من الترغيب والترهيب لم تخطر لأبي لهبٍ وأبي جهلٍ على بالٍ.
التوحيد، ما التوحيد! وما أدراك ما التوحيد! إفراد الله بالربوبية وبالأسماء والصفات وبالألوهية؛ فأما إفراده بالربوبية فاعتقاد أحديته في الخَلق والحُكم، والخَلق خَلقان: خَلقٌ أولٌ وهو الإيجاد، وخَلقٌ ثانٍ وهو البعث، والحُكم ثلاثةٌ: حُكمٌ كونيٌّ قدريٌّ وهو تدبير الله أمر ما خلق جميعًا (من أصغر ذرةٍ فما دونها إلى أكبر مجرةٍ فما فوقها، من مبدأ الخلق إلى أبده، ما عقل من هذا وما لم يعقل، في عالَمي الغيب والشهادة)، وحُكمٌ دينيٌّ شرعيٌّ وهو الحاكمية (حَقُّ الحُكم)، والحُكم الذي أنزل الله في الكتاب والسنة عقائد وشرائع، وحُكمٌ جزائيٌّ حسابيٌّ وهو مجازاة الله المكلفين من خلقه على الخير والشر بالخير والشر في دورهم الثلاثة، وأما توحيد الأسماء والصفات فاعتقاد وحدانية الله في أسمائه الحسنى وصفاته المثلى، بغير تحريفٍ وتعطيلٍ وبغير تكييفٍ وتمثيلٍ، وأما توحيد الألوهية فإفراد الله بالإرادة والقصد باطنًا وبالطاعة والحُكم ظاهرًا.
الآن حبيبي يفقه فؤادك أن ما نتكلم فيه آناء الليل وأطراف النهار ليس مسألةً من مسائل الشريعة، بل ليس قضيةً من قضايا العقيدة؛ إنما هو التوحيد عينُه، أن يُفرَد الله الواحد في نفسه بالحاكمية والحُكم اعتقادًا، وأن يُتحاكم إليه في كل أمرٍ عملًا، ولا يكون ذلك إلا بالكفر بالطواغيت، ولا يكون الكفر بهم إلا بمعرفتهم حق المعرفة والبراءة منهم ومعاداتهم، فمن لم يعرف الطواغيت لم يبرأ منهم ولم يعادهم، إنْ طواغيت اليوم إلا هُبَلُ ومَنَاةُ والعُزَّى أمس، وكما لم يكن التوحيد أول الإسلام صحيحًا إلا بالكفر بهذه الأوثان؛ كذلك لا يكون اليوم صحيحًا إلا بالكفر بهؤلاء الطواغيت. خانك في الدارين -وربِّ محمدٍ- شيخٌ لم يعلِّمك هذا مهما استفدت به خيرًا في فرعٍ من فروع الإسلام موفورًا.
الإسلام، ما الإسلام! وما أدراك ما الإسلام! الإسلام: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله؛ فأما لا إله إلا الله فتوحيد المعبود، ألا يُشرَك بالله في عبادته باطنًا وظاهرًا، والنفي في الشهادة قبل الإثبات، فالكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله واحدًا في العبادة، وأما محمدٌ رسول الله فتوحيد المتبوع، ألا يُشرَك بالرسول -صلى الله عليه وسلم- في الاتباع باطنًا وظاهرًا، ولا يكون ذلك إلا بالكفر بكل متبوعٍ في الدين سواه قبل الإيمان به واحدًا في الاتباع، وإنما القرآن والسنة شرحٌ واحدٌ على متن الإسلام (لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله)، وما كل كتابٍ خُطَّ في الإسلام ويُخطُّ إلى يوم القيامة إلا حاشيةٌ على شرح القرآن والسنة لمتن الشهادتين، وما كل قولٍ في الدين من عالمٍ بالله ورسوله وداعيةٍ إليهما إلا تقريرٌ على هذه الحواشي؛ فاعرف الإسلام دينك كما هو، وادع إليه كما هو، وجاهد به كما هو، “ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”.