هل أتاك نبأ مثلَّث الكرامة الأعظم!
“وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ”؛ “وَيَتَّخِذَ، “مِنكُمْ”، “شُهَدَآءَ”.
فأما “وَيَتَّخِذَ”؛ فإن الاتخاذ قريبٌ من الاختصاص والاجتباء والاصطفاء والاختيار والاصطناع والإيثار، وكلها أفعالٌ أُضيفت في القرآن إلى ذات الله في مقام تشريف أصفياء عباده؛ لكن الاتخاذ يكون للنفس، تقول العرب: اتخذ فلانٌ الشيء لنفسه: إذا أحبه وارتضاه لها، وما كان لله أن يتخذ لنفسه من عباده إلا الذين أعدهم لذلك المقام العلي إعدادًا، وما كان لله أن يتخذ لنفسه من عباده إلا من أراد لهم خير خيرات الدور الثلاثة؛ الدنيا والآخرة والبرازخ بينهما.
وأما “مِنكُمْ”؛ فإن مِن هنا -على أحد الوجهين- تبعيضيةٌ، فيكون إظهار القرآن حقيقة الاتخاذ التي أبان حميدُ مبناها عن مجيد معناها؛ ممتدًّا إلى هذه اللفظة مبسوطًا فيها متجلِّيًا بها، فهو اتخاذٌ فوق اتخاذٍ كالنور على النور، فليس الشهداء ومن اتُّخِذوا منهم في الدنيا والآخرة عند ربهم سواءً.
وأما “شُهَدَآءَ”؛ فحسبك في جمالها الأَنفس وجلالها الأقدس؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو المَحْظِيُّ بالرسالة؛ تمناها لنفسه المكتفية بفضائل النبوة عن سماء كل فضيلةٍ، فقال معظِّمًا قوله بالحلف -وإنه لَلْغني الأغنى عن القسم بأنه الصادق المصدوق-: “والذي نفسي بيده؛ لَوددت أني أُقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أُقتل، ثم أحيا ثم أُقتل، ثم أحيا ثم أُقتل”!
فإن قال قائلٌ: هو مربَّعٌ لا مثلَّثٌ؛ لأن أعظم ما في تلك الكرامة فاعلُ “وَيَتَّخِذَ”: الضمير المستتر الذي تقديره (هو)، العائد إلى الله الذي هو الله؛ الله الذي لولاه ما كان اتخاذ الشهداء لذاته العَلِيَّة، ولا كان شيءٌ مما يقتضيه الاتخاذ من الكمالات السَّمِيَّة، الله الذي له وحده الربوبية الكاملة والألوهية التامة والأسماء الحسنى والصفات المثلى، الله ذو الجلال والإكرام، الله الذي لا أجلَّ منه ذاتًا وأسماءً وصفاتٍ وأقوالًا وأفعالًا ولا أعظم، الله الذي على العرش استوى، إن قال قائلٌ: هو لأجل ذلك مربَّعٌ لا مثلَّثٌ؛ وجب الخضوع لقوله.
يا شهداء الإسلام المتخَذين من نفس الله لنفسه؛ ينبغي لمن عرف ذلك عنكم أن يبكي فوات حظِّه مما آثركم الله به على المسلمين بعد إيثار المسلمين بالتوحيد على العالمين؛ لا أن يبكيكم؛ تقبلكم الله بأحسن قبولٍ أجمعين، وربط على قلوبنا بعدكم لنكون من المؤمنين، هنيئًا لكم اتخاذ الله.