كم يتألم باسمًا ولا يتكلم!

كم يتألم باسمًا ولا يتكلم!

علَّمه زمانُه السكوتَ فيما علَّم.

وكم هَمَّ ببثٍّ ‍ونجوى! ولكن الله سلَّم.

الغرباء هم أولئك؛ حاجاتهم في صدورهم مقبورةٌ، من نوع ما لا يُحكى ولا يُشكى، قد يئسوا من قضائها بين الغُفاة الصاخبين؛ فاستودعوها هناك علَّام غيوب القلوب، هناك حيث لا بالغ لها في مغارات صدورهم إلا هو، له جنودٌ يدخلون حجرات القلوب ويخرجون منها كيفما شاؤوا رافقين، جواسيس القلوب الرؤفاء المُطبِّبون، لا هم يهابون حراسها ولا حراسها منهم يحاذرون.

يرى بُصَراء النبلاء آلامهم في مراياهم وإن أطرقوا صامتين، ويذوقون مراراتها بحُلوقهم وإن بسموا ضاحكين، كلما نفدت بلاسم قروحهم من أدراج مواساتهم عانقوهم طويلًا؛ العناق الذي هو إلصاق القلب بالقلب حتى يسكن.

وحشاتهم رحمٌ بينهم، وعزلاتهم سكنٌ لهم، وصفوُك لو تصطفي عندهم، وهم بعين الله حين لا تحوطهم عيونكم، قد برأهم الله لليل وصوَّر الليل لهم، بل إنهم لله هو؛ أليس له ما سكن في الليل والنهار! فإنهم أسكن ساكناتهما.

هو الليل في صمته ضجةٌ ** وفي سرِّه عالَمٌ أبكمُ

يهتف بكروبهم في هوادجها حادي عِيسِهم كلَّ وحشة ليلٍ بهيمٍ بين أرضٍ ذاهلةٍ وسماءٍ غضبى: أيتها ‍الأوجاع المخبوءة عن أبصارٍ لا تعقلها وآذانٍ لا تعيها؛ حسبكِ الله؛ بدخائلكِ أعلم وأخبر، وعلى كشفها أقوى وأقدر، يا كل واجمٍ بسرِّه في الملكوت؛ أنينك المجحود في قاع الحشا؛ قد سمع الله من رهيب صمته تفاصيل ماجَرَيات النُّدوب يشكوها إليه؛ أليس الرحمن بكافٍ!

قالوا أتحمي جِمالًا لست تعرفها ** فقلت أحمي جِمالًا سادتي فيها

قالوا ونحن بوادٍ لا به عشبٌ ** ولا طعامٌ ولا ماءٌ فنسقيها

خلُّوا جِمالكمُ يرعون في كبدي ** لعل في كبدي تنمو مراعيها

نفس المحب على الأسقام صابرةٌ ** لعل مسقمها يومًا يداويها

وأيضًا:

ولرُبَّما اختزن الكريم لسانهُ ** حذرَ الجواب وإنه لمُفَوَّهُ

ولرُبَّما ابتسم الوقور من الأذى ** وفؤادُه من حَرِّهِ يتأوَّهُ

وكذلك:

يراني بسامًا خليلي يظن بي ** سرورًا وأحشايَ السقامُ ملاها

وكم ضحكةٍ في القلب منها حرارةٌ ** يشبُّ لظاها لو كشفتُ غطاها

وما قلت إيهًا بعدهم لمُسامرٍ ** من الناس إلا قال قلبي آها

مُزنٌ مآقيهم، عطشى سواقيهم، جَرحَى مراقيهم؛ طوبى لراقيهم.

هذي تلاوة كاسفٍ منهم آخر ليلةٍ، نسخها لك جاسوسٌ بات على قلبه راصدًا:

مواجع الأرواح تُتلى هاهنا مُفَصَّلهْ

أنينَها أتلو أنا

إني سقيمٌ إخوتي إني سقيمْ

يا أيها البشيرْ

ألقِ القميص هاهنا فإنني ضريرْ

ألقِ القميص رأفةً لأُبصر النهارْ

لكنَّ عينًا كابدتْ ظلامَه الفحيمْ

تُودِي بها الأنوارْ

ذي عِلَّةُ الأكباد في حَمِّ الهَجيرْ

فُصُوصُها الدماءُ ينفطِرنْ

تلك التي تدافع الوَهَنْ

هذي حروفٌ منْ أسًى تبعثرتْ

مكسورةَ الأوزان والمرآة والضلوعْ

مكدودةَ الأنفاس والآهات والدموعْ

وهكذا الوَصَبْ

هذي حروفٌ خامَرَتْ فؤادَهُ

هُوْ

هو وحدهُ

وإنها حُتوفْ

وإنها وإنه على شَفا العدمْ

كأن شيئًا لم يكن إذا انقضى ** وما مضى مما مضى فقد مضى

مرفأ التعافي:

مقالةٌ وعاها راوٍ من رواة نبي الله -صلى الله عليه- فأدَّاها كما سمعها: “لا تحقرن من المعروف شيئًا؛ ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض”.

آنِسوا الوحشان لله، آنِسوا لله الوحشان، الوحشان آنِسوه لله، الوحشان لله آنِسوه، لله آنِسوا الوحشان، لله الوحشان آنِسوه.

بكل حرفٍ في مقالة الرحمة المهداة؛ يصرخ كل ما في روحي وجسدي.

إيناس الوحشان؛ تلك العبادة السامقة التي لا يَعدِلها من أنواع الأنداء وصنوف المَكرُمات -زمانَنا المُوحِشَ هذا- شيءٌ، كلا ولا يُدانيه.

إي وحقِّ عِلْمِ الله بتعاسات خلْقه ما ظهر منها وما بطن، من فتح الله له منها فقد أنزل على قلبه من أنهار رحموته -كلما آنس عبدًا- ماءً مسكوبًا.

إني لأرجو للبارع فيها (قلبًا وقولًا وعملًا)؛ أن يؤنس البرُّ الرفيق الودود -تبارك- وحشته جزاءً وِفاقًا؛ عند موته وفي برزخه ويوم الوحشة العظمى.

ما وَجِعَ قلبٌ بداءٍ إلا والوحشة أشدُّه ومنتهاه، ولا أزهق روحَه منتحرٌ إلا كانت الوحشة مبتداه.

إن الوحشة أنواعٌ ودركاتٌ، بعضها فوق بعضٍ إيلامًا؛ فمِن الناس من تعرِض له حالًا وحينًا ثم تزول برأفة الله، ومنهم من تصحبه فلا تكاد تبرحه بحكمة الله.

فأما من أظهر الله المبين له أسباب وحشة أخيه، أو أمه أو أبيه، أو صاحبته أو بنيه؛ فقد أوجب عليه إيناسه بكل سببٍ لديه معلومٍ مقدورٍ.

إيناس الوحشان؛ درة تاج القربات يختص الله بها من اجتبى من مصطفَيه.

لقد أذاق الله قلبي من لذائذ إيناس المستوحشين؛ ما اعتقدت به أن غاية مكافأته -سبحانه- عليه؛ ما يصيب به قلبي فيه من هذي اللذائذ، وإنما بلَّغني هذه المنزلة من تلك العبادة أني استوحشت في حياتي كثيرًا، وإني كلما قال قائلٌ: فاقد ‍الشيء لا يعطيه؛ أقول: إلا النبلاء؛ كلما ذاقوا مرارات الفقد؛ تفنَّنوا في حلاوات العطاء؛ فاكتبني اللهم فيهم ذلك أقصى مشتهاي.

يا أرباب السعادة الباهجين؛ ‍أدوا ‍زكاة السعادة، في كل ألف لحظة مسرَّةٍ؛ لحظة لُطفٍ بالمستوحشين، تلك الزكاة حقٌّ معلومٌ، لسائل رَوْح الأرواح والمحروم، فأما الصدقات فمما بسط الله لكم، وإنه ليجزي المتصدقين.

إنك امرؤٌ فيك عِيسَوِيَّةٌ؛ قادرٌ أنت على إحياء الموتى بإذن الله، انفخ من قوة إبهاج روحك في وَهَنِ فؤادٍ كئيبٍ، فإذا حَيِيَ بك فكأنما أحييت الناس جميعًا.

أضف تعليق