#في_حياة_بيوت_المسلمين. قالت: يختصني أهل بيتي

#في_حياة_بيوت_المسلمين.

قالت: يختصني أهل بيتي بقضاء حوائجهم داخلَ البيت وخارجَه دون أختي؛ وهي قاعدةٌ لا تبالي.

قلت: بل هو اختصاص الله إياكِ لا اختصاص أهلكِ؛ لو كان بصركِ حديدًا؛ “يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ”، “ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ”، “اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ”، “اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ”، “ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ”، “وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ”، “وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ”، “نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ”، “وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ”، “وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ”.

إن عبدًا يختصه الله بقضاء حوائج عباده قد أعلاه إلى كرامته، وعرَّضه في الدنيا والآخرة وبرزخٍ بينهما إلى أعظم أسباب رحمته؛ كيف بمن فتح الله له من ذلك في والدَيه وإخوته! إنْ هو إلا عبدٌ أراد الله تكفير سيئاته وزيادة حسناته ورفعة درجاته، وهل يميل الناس في حوائجهم إلا على من امتحنوا مروءته، واختبروا أُرُومته؛ فإذا هو جميل الحقيقة، نبيل الخليقة، مأمون الغوائل، موفور النوائل!

“يا ابن آدم؛ استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب؛ وكيف أطعمك وأنت رب العالمين! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلانٌ فلم تطعمه؛ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم؛ استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب؛ كيف أسقيك وأنت رب العالمين! قال: استسقاك عبدي فلانٌ فلم تسقه؛ أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي”؛ إنني لا أتخايل ساكنًا بقى فيكِ الآن إذ تقرئين!

هل أتاكِ حديث القيامة! تكوير الشمس وخسْف القمر وبعثرة الكواكب وانكدار النجوم، قبْض الأرض ودكُّها ومدُّها وتَخلِّيها وزلزالها، طَيُّ السماوات وانشقاقها ومورانها وانفطارها، تسيير الجبال ونسْفها، تعطيل العِشار وحشْر الوحوش وسؤال المؤودة، تفجير البحار وتسجيرها، نفْخ الصور فإذا الخلائق يفزعون، ثم نفْخه فيموت منهم من شاء الله، ثم نفْخه فإذا هم قيامٌ ينظرون، ثم حُفاةً عُراةً غُرْلًا إلى الحق يُحشرون، ثم يُجمعون، ثم العرض، ثم الحساب، ثم يُجاء بكتاب الأعمال، ثم الشهود من الملائكة الأبرار، والأسماع والأبصار، والجلود والأبشار، ثم تطايُر الكتب ونشْر الصحف، ثم نصْب الموازين، ثم انصراف الناس إلى ظُلمةٍ دون الصراط، ثم الصراط وما أدراكِ ما الصراط! ثم القنطرة بين الجنة والنار للقِصاص بين أهل الجنة في المظالم، أو الهاوية وأهوالها؛ أحوالُنا -في كل ذلك- أعمالُنا.

لئن اقشعرَّ جلدكِ من تصور عظائم الواقعة هذه؛ فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُليِّنه لكِ بيمينه تاليًا عليه وُعُودَ الله؛ “من نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كُرب الدنيا؛ نفَّس الله عنه كربةً من كُرب يوم القيامة، ومن يسر على معسرٍ؛ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا؛ ستره الله في الدنيا والآخرة”، “ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى أثبتها له؛ أثبت الله -عزَّ وجلَّ- قدمه على الصراط يوم تزل فيه الأقدام”، “صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والمهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة”؛ تلك آثار قضائكِ حوائجَ أهلِ بيتكِ والناسِ في يوم حاجاتكِ الكبرى.

إنكِ إذ تقضين لأهلكِ حوائجهم؛ تفعلين لهم ما يحبون ولا يقدرون على فعله، سواءٌ ما لا يقدرون عليه كلًّا أو جزءًا، وحقيقةً أو حُكمًا، وضرورياتٍ أو حاجِيَّاتٍ أو تحسينيَّاتٍ، وإذا كان “الجزاء من جنس العمل” قانونًا لله لا يتحول؛ فإن الله يفعل لكِ يوم القيامة ما تحبين ولا تقدرين على فعله جزاءً وفاقًا؛ لكن المسافة بين قضائكِ حوائجَ أهلكِ في الدنيا وقضاء الله حوائجَكِ يوم القيامة؛ هي المسافة بينكِ وبين الله؛ فعلُكِ على قدركِ وفعلُ الله على قدره، والمسافة بين الدنيا والآخرة هي المسافة بين الجنة والنار.

“أحبُّ الأعمال إلى الله سرورٌ تُدخله على مسلمٍ، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه دَينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخٍ لي في حاجةٍ أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد -مسجد النبي- شهرًا”؛ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما يشتهي إنسانٌ يعلم أنه خُلق -بعد إذ لم يكن شيئًا مذكورًا- لعبادة الله؛ فوق هذا من الرضا! وهل فردوس العبادة الأعلى إلا محبة الله! فهذا الله الذي تريدين وجهه يدلُّكِ على مَحابِّه مُرَتَّبَةً؛ فأنَّى تحارين! معه قوله -صلى الله عليه وسلم- الآخر؛ “صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سواه”؛ ليأتي على بنيان فقهنا المقلوب من القواعد، مشيكِ المُجرَّد في قضاء حاجةٍ واحدةٍ لعبدٍ واحدٍ من عباد الله؛ خيرٌ لكِ من مئةٍ وخمسين ألف صلاةٍ وزيادةِ الاعتكاف وأعماله! كيف سعيكِ لا مشيكِ .. لأهلكِ لا لغيرِهم .. في حاجاتٍ لا حاجةٍ واحدةٍ!

“بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صاحبه خبَّاب بن الأَرَتِّ في سريةٍ، قالت ابنته -رضي الله عنهما-: فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعاهدنا حتى يحلب عنزةً لنا في جَفنةٍ لنا، فتمتلئ حتى تفيض”؛ يا رب؛ أنت شهيدٌ الآن مَحِلِّي من الضعف ومنزلي من العجز، لا يُسعفني قاموس المعاني والبديع والبيان؛ لنعت ما أوليتَ رسولك فينا من التَّحْنان؛ فأعتذر بالصلاة عليه منك والسلام.

يا أمَة الله وهنيئًا لكِ الكرامة؛ إن لقضاء الحوائج صورةً وحقيقةً، فأما الصورة فجهدكِ المبذول فيها ظاهرًا وتلك درجة العامة، وأما الحقيقة فما أَولى اللهُ نفوسَ الخاصة فيها من منازل الصدق والإخلاص والنُّبل والمروءة؛ قال ابن شبرمة رحمه الله: “إذا طلبت من أخيك حاجةً فلم يُجهد نفسه في قضائها؛ فتوضأ وضوءك للصلاة، وكبِّر عليه أربع تكبيراتٍ، وعُدَّه في الموتى”، وقال حكيم بن حزامٍ رضي الله عنه: “ما أصبحتُ وليس ببابي صاحبُ حاجةٍ؛ إلا علمتُ أنها من المصائب التي أسأل الله الأجرَ عليها”، وقال عبد الله بن جعفر رحمه الله: “ليس الجواد الذي يعطيك بعد المسألة؛ ولكن الجواد الذي يبتدئ؛ لأن ما يبذله إليك من وجهه أشد عليه مما يُعطَى عليه”، وقال مُطَرِّفُ بن عبد الله -رحمه الله- لصاحبٍ له: “إذا كانت لك إليَّ حاجةٌ؛ فلا تكلمني فيها؛ ولكن اكتبها في رقعةٍ، ثم ارفعها إليَّ؛ فإني أكره أن أرى في وجهك ذل المسألة”، وقال محمد بن المنكدر رحمه الله: “لم يبق من لذة الدنيا؛ إلا قضاء حوائج الإخوان”؛ تلك الحقيقة المليئة لهذه العبادة لا صورتها الفقيرة، وأولئك أهلها الصِّدِّيقون.

“من كان في حاجة أخيه؛ كان الله في حاجته”، “والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه”؛ الله في حاجتكِ! الله في عونكِ! الله الذي هو الله! الله ذاتًا وأسماءً وصفاتٍ وأقوالًا وأفعالًا! الله بكل ما له من الصمدية في نفسه كمالًا في سُؤدُدِه وعظمته وكبريائه! الله بجميع ما قام بذاته من صفات الجلال ونعوت الجمال! الله الذي ليس كمثله شيءٌ ولم يكن له كفؤًا أحدٌ! الله ربًّا إلهًا في حاجتكِ أنتِ وعونكِ! أنتِ من أنتِ! ضعفًا وفقرًا وكُنودًا وآثامًا! فتالله ما بين معروفكِ إلى عباد الله -مهما جَلَّ باطنًا وجَمَّ ظاهرًا- وبين هذه الإثابة العظيمة؛ نسبةٌ ولا صلةٌ؛ إلا رحمةً من خير الشاكرين وفضلًا كبيرًا.

لقد أُحاذر عليكِ إن أنتِ أكثرتِ التبرم بهذه الوسيلة الفضيلة إلى الله؛ أن يجعلها -عليمًا حكيمًا- في غيركِ من أهلكِ؛ ولقد أتانا عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في ذلك: “إن لله عبادًا اختصهم بالنعم لمنافع العباد، يُقرُّهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحوَّلها إلى غيرهم”؛ كأني بكِ الساعةَ تقولين: اللهم إني أعوذ بك من زوال اجتبائك، وتحوُّل اصطفائك، أستغفرك أستغفرك.

قالت: فما بالي أنشط إلى قضاء حوائج غيرِ أهلي ما لا أنشط لأهلي لا كالَّةً ولا مالَّةً! قلت: لهذا سببان نظريٌّ وعمليٌّ؛ فأما النظري فضعف تصور هذه العبادة حقيقةً في نفسها وجزاءً في الدُّور الثلاثة عليها، ومن ضعُف تصوره لعبادةٍ؛ ضعُف نشاطه إليها واحتسابه فيها، ودواؤه ما أرجو في حرفي هذا من بركات الله، وأما العملي فجُملة التنازعات بين الأسرة الواحدة بطول الاختلاط وشدته، ودواؤه قصْد وجه الله، والوفاء للأهل بترجيح فضائلهم، وشهود الافتقار إلى ثواب الله في الدنيا والآخرة.

إنكِ إذ تتقلَّبين في نعماء خدمة أهلكِ؛ تتخلَّقين بصفةٍ من صفات جمال ربكِ، الرأفة والرحمة والبر والرفق والوَهْب والكرم والتودد والحنان، وهاهنا مكافأتان؛ أولاهما: أن من تخلَّق بصفةٍ من صفات ربه السائغ له التخلُّق بها؛ أدخله الله منها عليه، وقرَّبه بسبيلها إليه، قال ابن القيم رحمه الله: “وهذا شأن أسمائه الحسنى؛ أحبُّ خلقه إليه من اتصف بموجبها، وأبغضُهم إليه من اتصف بأضدادها”، الثانية: ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الله تعالى لعبده على حسب ما يكون العبد لخلقه”.

لقد شهدت في حياتي من حَلَفَ توفيقُ الله أن يحالفه في عامة أقواله وأفعاله وأحواله؛ فإذا من وراء ذلك روائعُ بدائعِ قضاء حوائج الناس، وإذا الشأن قديمٌ -قبل شهودي- يوم حلفت أمنا خديجة -رضي الله عنها- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلا مَثْنَويةٍ: “كلا والله؛ لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصِل الرحم، وتَصْدُق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتَقْري الضيف، وتعين على نوائب الحق”، فبَرَّ الله يمينها في رسوله وفي كل مُؤْتَسٍ به إلى يوم القيامة، وشهدت من لا تصرعه البلايا وإن أصابت من نفسه أو حِسِّه قليلًا أو كثيرًا؛ فإذا هو ملفوفٌ محفوفٌ بسنة الله؛ “صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع وجد متكأً”.

الآن تقول سائلتي: أي شيءٍ بيني وبين إلهي؛ حتى فضَّلني على غيري، واصطفاني على سِوائي!

أضف تعليق