مَثل الإسلام كمَثل ناطحة سحابٍ عظيمةٍ سامقةٍ، لم يكلِّفك الله بلوغ سقفها وأَنَّى تستطيع! لكنه كلَّفك أن تلقاه -يوم تلقاه- متقدمًا إلى جهة هذا السقف غير متأخرٍ عنه، وخلق لك النفس والهوى والدنيا والشيطان -أعداءً أربعةً- يصدونك عن صعودك كلَّ خطوةٍ ويقعدون لك بكل درجةٍ، فإن أنت غالبتهم أن تزلَّ قدمُك، أو زلَّت فاستعنت ربَّك على النهوض كلَّ زللٍ؛ كنت عند الله وليًّا.
حمزة أبو زهرة
قال: أراك تشفق على المذنبين
قال: أراك تشفق على المذنبين طويلًا.
قلت: على نفسي أُشفق؛ إني -واخجلاهُ- أعوجُهم، وإلى الإشفاق أحوجُهم.
إن قلبي يعشق تحبيب الله إلى الناس.
هذا زمانٌ لم يكن مثله قطُّ في الفتن تراكُبًا وتعاقُبًا زمانٌ، قد أُغرق عامة أهله في عيوبٍ وذنوبٍ وكروبٍ لا يحصى كمُّها ولا يستقصى كيفُها، من سلِم من نوعٍ منها هوى في نوعٍ آخر، جواذبها عاصفةٌ قاصفةٌ، كادت تحيط بما بين أيديهم وما خلفهم وبأيمانهم وشمائلهم، ولم يبق لهم سوى جهة السماء مطمعًا؛ فهنيئًا لمن جعلهم الرب في الأرض أسباب الناس إلى أطماعهم في السماء.
إنا لا بد مخوِّفون، لكنا للترجية مغلِّبون.
يا حبيبي؛ إن معتقدي أن هذه العبادة النبيلة أرجى العبادات هذا الزمان.
يا رب حبِّب بي إليك عبادًا لا تَعداد لهم.
وقائلٍ: لست أهلًا لغفران الله،
وقائلٍ: لست أهلًا لغفران الله، ومتاب الله، وتثبيت الله؛ فكيف أرجوه ذلك!
يا حبيبي؛ هل سترك الله (كلَّ قصدٍ منك للسيئات، وكلَّ مكرٍ لها، وكلَّ حرصٍ عليها) وأنت للسَّتر أهلٌ! وهل أمهلك الله بعد خطاياك (ما بدا منها وما خفي، ما دقَّ منها وما جلَّ) وأنت للإمهال أهلٌ! وهل حَلُم الله عليك (فلم يعاجلك بالأخذ حيث تعرَّضت له جريئًا لا تعبأ) وأنت للحِلم أهلٌ! فما عجبٌ إلا عجبُك!
فقل: رب فاغفر لي وإن لم أكن للغفران أهلًا، وتب علي وإن لم أكن للمتاب أهلًا، وثبتني وإن لم أكن للثبات أهلًا، رب ما كنت مستحقًّا فيما مضى إحسانًا في الدين أحسنت به إلي، ولا مستأهلًا فضلًا في الدنيا أفضلت به علي، لكنك أحسنت وأفضلت حنَّانًا منَّانًا؛ فأدم علي تحنُّنَك وتمنُّنَك ما أشدَّ فقري إليك!
يا حبيبي؛ تملَّق الله بهذه أبدًا: رب أنت أدخلتني رحمتك؛ فلا تخرجني منها.
معذرةُ قلبٍ إلى ربٍّ ليس
معذرةُ قلبٍ إلى ربٍّ ليس كمِثله مُفَضْفَضٌ إليه:
ما أنا بلائمٍ نفسي أن كانت تُفَضْفِض -كلَّ غلَبةٍ- إلى ودودٍ من أصفيائها؛ بالخاصِّ والدقيق، في عيبٍ أو ذنبٍ أو كربٍ؛ إني بشرٌ وإنهم نبلاء.
لكن لو أني كنت أُفَضْفِض إلى ربي؛ بمعشار ما فَضْفَضت به إلى هؤلاء!
على أن ربي كان المحيط بخاصِّي ودقيقي في عيوبي وذنوبي وكروبي خُبْرًا؛ والناس إما جاهلون بما بدا من فاقاتي أو هم متجاهلون.
وربي كان المقتدر على إصلاح عيبي وغفران ذنبي وكشف كربي، والناس -مهما استقدروا- عجزةٌ دون حاجاتهم؛ فأَنَّى يستطيعون!
وربي كان السَّتِير الذي لا يواري القبائح فحسْب؛ بل يُبْديني -مع غزارتها- في أعيُن الخَلق جميلًا بهيًّا، والناس لا يكادون يكتمون حديثًا.
وربي كان الواجد ما أراد من جلب نفعٍ ودفع ضرٍّ بكن منه فيكون، بالغًا إياه غالبًا عليه قاهرًا فوقه، والناس فقراء رأيٍ أو عملٍ أو كليهما.
وربي كان المنَّان الذي يعطي على غير استحقاقٍ وعطاءً غير مجذوذٍ، والناس إن أعطوا فلمستحقٍّ لديهم، وعطاؤهم -مهما طال- ممنونٌ.
وربي كان الجواد الذي تعرَّف أول ما تعرَّف إلى عباده في كتابه باسمه الأكرم، بلغ جودُه أن جعل دعائي إياه بتحصيل مطالبي نفْس عبادته التي خلقني لأجلها، والناس إما بخلاء مالٍ أو وقتٍ أو شعورٍ أو عملٍ.
وربي كان سُبُّوحًا قُدُّوسًا لا يُعَيِّر، والناس يُعَيِّرون، ومن لم يُعَيِّر فمعاملتَه يُغَيِّر.
وقبل هذا وبعده؛ فإن ربي كان المنفرد بمحبة إلحاحي عليه؛ في ضرورياتي وحاجِيَّاتي وتحسينياتي، لا شريك لله في محبة هذا أزلًا أبدًا.
ليس إلحاحُ العبد على ربه كلما دعاه (بنفْس كلامه.. بنفْس ألفاظه.. بنفْس أحرُفه)؛ مستوِيَ الطرفين عند الله لا هو محبوبٌ ولا هو مكروهٌ؛ كلا؛ إن إلحاح عبده عليه أحبُّ شيءٍ من لسانه إليه، وآثَرُ شيءٍ من قلبه لديه.
أن أقول لربي كل مناجاةٍ كل ما قلته له في السابقة وأنا قائلُه له في اللاحقة؛ ذلك الذي يرفعني الله به مكانًا عَلِيًّا، ويقرِّبني منه نَجِيًّا.
وألقاب الفَضْفَضة إلى الرحمن: الدعاء، والرجاء، والتذلل، والتضرع، وألقابها إلى الناس: شكايةٌ، واستجداءٌ، واستعطافٌ، ومسكنةٌ.
وإكثار الطلب إلى الناس الذي يعدُّونه رُخْصًا أَهُون به عندهم؛ يجعله الله في عليائه فوق عرشه وسمائه كمال عبوديةٍ، ويباهي بي ملأه الأسمى.
الفَضْفَضَة حيث كانت ذلٌّ وافتقارٌ؛ فأنْ يكونا من قلبي لربي أَصْوَنُ وأَزْيَنُ.
إنكم لن تُفَضْفِضوا إلى ربكم في خيرٍ من سجودكم بين يديه؛ فأطيلوا السجود عونًا عليها، أطيلوه وإنْ شيئًا فشيئًا، لا بد من تعوُّد العبيد على السجود الطويل، إنما السجود الذي يؤتي رُوحَ المؤمن أُكُلَها السجود الطويل.
صورة السجود: جسدٌ جاثٍ على الأرض، وحقيقته: قلبٌ طائفٌ حول العرش.
السجود عزُّك واستغناؤك واقترابك، فكلما أطلته زاد حظُّك من هذا جميعًا.
السجود دخول الفردوس قبل دخوله، السجود حُلول الرضوان قبل حُلوله.
السجود مشفى السماء في الأرض من عِلَل الأرواح؛ ما ظهر منها وما بطن.
السجود محطة تموين قلبك من أقوات ربك؛ كل مرحلةٍ في الطريق.
السجود الناظم ما تشظَّى منك، السجود الجابر ما انكسر فيك.
السجود المضيء ما انطفأ بروحك، السجود الماسح على غائر جروحك.
السجود سكونك الضروري عقب كل كَدْحٍ؛ في العيوب والذنوب والكروب.
السجود سِلمك بعد كل غارةٍ تشنُّها عليك الدنيا، أو تشنُّها أنت للدين.
السجود الأُنس بحضرة القدس؛ فرارًا إلى الله من كل جاذبٍ كاذبٍ.
السجود الطيران إلى سدرة المنتهى، السجود الشرف، السجود المعتصَم، السجود الملاذ، السجود المستراح، السجود الرسوخ، السجود الرُّجعى.
من قلَّ فقهُه بالدنيا؛ كثُر
من قلَّ فقهُه بالدنيا؛ كثُر تفجُّعه من دواهيها.
سألني بائسٌ كأنه يائسٌ: كيف
سألني بائسٌ كأنه يائسٌ: كيف أرجو الله غفران ذنوبي ولا حد لها!
يا حبيبي؛ عظيمٌ تعاظُمك ذنوبك حتى لكأنها غير محدودةٍ، هذا اللائق بك عبدًا، لا يليق بك سواه.
فأما أن ذنوبك في حقيقتها غير محدودةٍ (مهما بلغت نوعًا وكمًّا وكيفًا وتراكُبًا وتعاقُبًا)؛ فاللهم لا.
كيف وأنت مقترفُها الإنسان (محدود الذات والصفات والأفعال)!
يا حبيبي؛ إن ربنا الله الذي يُطاع ويُعصى (غير محدود الذات والصفات والأفعال)، من اعتقد هذه الحقيقة العظمى حق الاعتقاد؛ لم يتعاظم حسناته فيُعجب بها أو يتيه؛ فإنها مهما كبِرت دون جلال الله، ولم يتعاظم سيئاته فيقنط من رحمة الله أو ييأس من رَوحه؛ فإنها مهما كثُرت دون جمال الله.
الآن الآن ندخل أجمعون بالمحدود من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ على غير المحدود من صفات جمال ربنا.
رباه إنا عليك داخلون بخطايانا كلِّها، كلِّها كلِّها؛ ما ظهر منها وما بطن، ما دقَّ منها وما جلَّ؛ فما أنت فاعلٌ بنا!
مولاه سيِّداه؛ ما لمَعاويزك محاويجك عندك من عامِّ الغفران وتامِّ المتاب، شاهدين على أنفسهم بغاية الضعف وغاية الافتقار وغاية الذل، معترفين بخطاياهم لا يدفعون منها مثقال حبة خردلٍ، لا يرون أنفسهم مستحقين شيئًا من فضلك الكبير طرفة عينٍ! ما لنا عندك حبيبَنا وحالُنا ذي الحال!
كأني بحبيبي الآن استروحت روحه برَوح الله، فاستغفر ربه وخرَّ راكعًا وأناب.
هل أتاك نبأ الدياثة الخفية!
هل أتاك نبأ الدياثة الخفية!
ألا إنها شرٌّ من الدياثة الجلية (من وجه خفاء معناها عن أكثر الناس).
الدياثة الجلية ألا يغار الرجل على أهل بيته، والدياثة الخفية ألا يغار الرجل على نفسه، ولا بلاغ إلى الأولى إلا بسبيل الثانية.
شابٌّ لا يتعاطى المخدرات؛ لكنه يجالس متعاطيها، أو يعينه بمالٍ وهو يعلم أنه يستعين به، ولولا سقوط حرمته في نفس المتعاطي ما تعاطى بين يديه، ولا سولت له نفسه التسول من ماله لأجلها.
فتًى لا يدخن أو لعله؛ يعمل في مقهًى، يناول فيه الرجال والنساء -مختلطين أو غير مختلطين- الدخان وما حرَّم الله، لا يرونه -إذ يطوف عليهم فيها بما يشتهون- غير آلة مناولةٍ جامدةٍ لا يعبؤون بها.
عاملٌ عند ذي جاهٍ ظلومٍ غشومٍ؛ يسارع في هواه سعي البغايا عند ساداتهن، يجود له بقهر الموظفين تبرُّعًا ابتغاء رضوانه، يقول -كلما عوتب- أخزى كلمةٍ قالها صاغرٌ: أنا عبده المأمور! وصدق الدنيء.
هذه الدياثة الخفية، لا تزال بأهلها حتى تُهَوِّن عليهم أختها الجلية؛ ألا من عاقبه الديان بشيءٍ منها؛ فلينزع هرولةً عنها، وليَصُن نفسًا بين جَنْبَيه أعلاها الله بالتوحيد وأغلاها؛ واغوثاه مولاه من مباديها!
ما ظنك بربك! ألم يُعَوِّدك
ما ظنك بربك!
ألم يُعَوِّدك رحمته!
متى كنت بدعائه شقيًّا!
ألست الغاديَ الرائحَ عُمُرَك أجمعَ بين فِجاج آلائه!
هل غادر الله فيك من مثقال ذرَّةٍ لم يغرقه في أَنْهُر فضله!
فيم سوء الظن به وما أَلِفْت سوى لطفه! أم أن إيلافك اللطف بجَّحك!
ألست الناقم على كل من أحسنت إليه بالنقير والقِطمير؛ فلم يشكر لجلال نَعمائك! أين نقمتك على نفسٍ كَنودةٍ تعدُّ يسير المصائب وتنسى وفير المِنن!
كم كشف عنك من ضرٍّ وهمٍّ! وأذهب عنك من بأسٍ وغمٍّ!
تذكُر يوم صبَّحك راضيًا مجبورًا؛ وقد بِتَّ بمعصيته مسرورًا!
ألست محوطًا بأنعُمه ظاهرةً وباطنةً؛ في نفسك ومن تحب!
كم يشتاق لحرِّيتك أسيرٌ لا يرجو عليها مزيدًا! ويتمنى عافيتك سقيمٌ قرَّح جلدَه طولُ الرُّقاد! ويتوق إلى صيانة وجهك فقيرٌ جفَّف ماءَ وجهه ذلُّ السؤال! ويشتهي مفضوحٌ بخطيئته بين الناس سَترًا من الله يراه عليك مسدولًا!
كم تبغَّضت إلى الله -جافيًا- بما يكره؛ فوالاك -متودِّدًا- بما تحب!
هل فرَّط في هدايتك الكونية والشرعية من شيءٍ؛ فتعتب عليه بشيءٍ!
من علَّمك أن لك عنده شيئًا وأن عليه فِعلَه لك! عزَّ الفعَّال لما يريد وتبارك.
ساعةَ أثنى عليك أحدهم خيرًا ولم تغسل يدَك بعدُ من فسوقٍ؛ كيف نسيتها!
كم دلَّك عليه، وعلَّمك من لدنه، وعرَّفك سبيله، ووصلك بهُداه!
كم أقامك في مراضيه حين قام غيرك في مساخطه؛ يختصك بالعناية!
أرأيت كيف جعل إمهاله إلهامًا وإنظاره إنذارًا؛ فهو يتابع لك بين آياته لتؤوب!
أفلما شرح للطاعات صدرك من بعد سعيك في المعاصي؛ كان شكره نسيانه!
الساعة التي تصلِّي فيها هي هي ساعة إشراكِ مشركٍ، وابتداعِ مبتدعٍ، وظُلمِ ظالمٍ، وفجورِ فاجرٍ، وشرودِ شاردٍ، وإلحادِ مطرودٍ عن الطريق كلها.
أمستحقٌّ أنت عصمة الله إياك من فاحشةٍ قارفها أدنى الناس منك! وإنجاءَك من ظلمٍ لابَسَه جارٌ ليس بينك وبينه أكثرُ من جدارٍ! وتسليمَك من غوايةٍ أشهدك احتراق العامة بها! فبما نعمةٍ من الله لم يكن شيءٌ من ذلك.
أي حسنةٍ لك عنده حتى يَنْظِمك في صفوف الموحدين حقًّا؛ تعادي أعداءه وتوالي أولياءه! ولو شاء جعل عقوبتك في معاداة أوليائه وموالاة أعدائه.
هذا الإسلام الذي أنعمك به؛ ضل عنه كافرٌ يودُّ يوم التغابن لو أنه أسلم، هذه السُّنة التي ترغد فيها حُرِمها مبدِّلٌ يُذاد عن الحوض غدًا، تلك الفتن التي تُصَد آناء الليل وأطراف النهار عنها؛ هو الذي أنقذك برأفته ورحمته منها.
لماذا لم تكن في صفات الله معطِّلًا أو مجسِّمًا! وفي حقيقة الإيمان خارجيًّا أو مرجئًا! وفي عقيدة القدَر نافيًا أو غاليًا، وفي الصحابة شِيعيًّا أو ناصِبيًّا!
لولا أن منَّ عليك بمنهاج أهل السُّنة تتقلَّب في ساجديهم؛ لخُسِف بك.
أوجدك من العدم ليُعَرِّضك لسعادة العبادة في الدنيا، ولو أنه جعل نفس العبادة جزاءها لكان أوفى الشاكرين؛ لكنه وعدك عليها جنةً عرضها السماء والأرض، تَخْلُد بها في رضوانه الأكبر محبورًا بلذة النظر إلى وجهه الأكرم، ثم أعانك على ما له أوجدك، ولو شاء لم يكن من ذلك شيءٌ.
كم باعدَت ألطافُه الخفية بين ذرَّات بلائك الكثيف؛ حتى أبرزتك إلى براح العافية! لولا إيصاله دقائق برِّه برفقٍ إلى جَوَّانِيَّاتك قبل بَرَّانِيَّاتك من حيث لا تشعر ولا تحتسب؛ ما نجوت منها، فانظر إلى آثار اسمه اللطيف!
كم يسَّر لك عسيرًا، وقرَّب إليك بعيدًا، وفتح عليك مغلَّقًا، وجمع لديك مفرَّقًا!
كم قطَعته -فقيرًا إليه، وهو الغني الحميد- فوصلك!
كم بعُدت عنه -لا حول لك ولا قوة إلا به- فأدناك منه!
كم استدبرت رحمته فاستقبلك بها تلقاء وجهك؛ يقول لك: لا تُعرض عني!
كم أعميت عينك عن رسالةٍ أرسلها إليك، فأقرأها قلبَك -قاهرًا صُدودك- فوعاها؛ فصلُح بها شأنك، ومشيت بها سويًّا على صراطٍ مستقيمٍ!
إن الذين يشكون في الواقع والمواقع رحيمهم -تعاظمت رحمته- إلى من لا يرحمهم؛ لولا أنه جعل لهم عقولًا وأعيُنًا وألسُنًا، ولولا أنه وهبهم طاقاتٍ وأوقاتٍ، ولولا أنه يسر لهم أموالًا وأحوالًا؛ لولا هذا وأضعافه من مِنحه ما قدروا على شكايته، وإلا فالذين يعدمون هذا لا يقدرون على ذلك.
السماوات والأرض مكانًا، الليل والنهار زمانًا، الشمس والقمر آيتاهما، الماء والهواء ، المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والمراقد والملابس والمراكب، نفسك وجسمك ومخك، كل ذلك (بالنوع والكمِّ والكيف) من عطاءات الربوبية التي ما كانت قطُّ محظورةً عليك؛ بل لا يزال باسطُها باسطَها حواليك؛ كلها لدلالتك عليه فتودُّدك إليه.
القرآن آيةٌ آيةٌ، السنة حديثٌ حديثٌ، الملائكة ملَكٌ ملَكٌ، الأنبياء نبيٌّ نبيٌّ، عقائد الإسلام وشرائعه وآدابه، العُبَّاد والعلماء والحُفَّاظ والمصلحون والمجاهدون والمحسنون، كل هذا وما لا يحصى عدًّا من عطاءات الألوهية المُثلى؛ لإعانتك أنت -ما أنت!- على سعادتك الهائلة السرمدية.
كيف صارت عطاءات الربوبية وعطاءات الألوهية؛ نعمًا مألوفةً مغفولًا عنها لا تكاد تُذكر فتُشكر كأنما هي حقٌّ لنا! وكأن على المنعم بها شُكر قبولنا لها.
نعمٌ ما كان حق الواحدة منها؛ إلا سجود القلب الحياةَ كلَّها يحاول بعض الحمد وبعض الشكر وبعض الوفاء، وما هو ببالغٍ شيئًا من ذلك ولا يستطيع.
أتراه يستكثر بك من قلَّةٍ، أو يستعز بك من ذلَّةٍ؛ فهو يسارع في هواك!
لم يقل ربك: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”؛ حتى قال في عقبها: “مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ”؛ ليُعْلِمك أنه لا يكلِّف أحدٌ أحدًا بشيءٍ إلا وهو غانمٌ به منتفعٌ منه، إلا هو؛ فإنه بصفات الكمال وكمال الصفات كلَّف، وما كلَّف المكلَّفين إلا لِمَا هو عائدٌ عليهم هم من عوائد الخير في دُورهم الثلاثة، وما كانوا أجمعون ليَبْلغوا نفعه فينفعوه شيئًا.
ذلك الله؛ هو ربك وأنت صنعته، ولا يصنع صانعٌ حكيمٌ من الناس شيئًا ليُتلِفه؛ كيف بالحكيم الخبير واسع الرحمة والمغفرة! ما خلقك إلا للرحمة، ولا أنزل إليك الكتاب لتشقى، فما أصابك بعدُ من تلفٍ فمن نفسك.
من بصَّرك ما بصَّرك به أجمل الجُملاء من آيات كونه وشرعه!
من أسمعك ما أسمعكه أكرم الكُرماء: “يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ”!
لم لا تشهد من نعمه إلا ما منعك منه أو أخَّره عنك (مما لست له، أو ليس لك)؛ حتى صار ارتقابك إياه حجابًا لعينيك عن شهود حاقِّ النعم!
لم يُثيبك على صبرك في المصائب؛ وما أصابتك إلا بما كسبت يداك!
تسوؤك سويعاتٌ من بلاءٍ ما كان لها أن تخلو من لطف الله ورحمته؛ وأنت محوطٌ بالعافية قبلها وبعدها! ثم إنه ليس لبلاءٍ غايةٌ إلا تأهيلك للغفران والرضوان، وهو أعونُ أسباب دنيا العبد على دينه لو كان من الفاقهين.
كيف تطيع من أخرج أباك من الجنة في شهوةٍ يزينها! أم كيف تصدِّقه في شبهةٍ يزخرفها! أم كيف تكون سببًا في: “وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ”!
كيف إذ أعرضت لم تُقبل! أم كيف حين عثرت لم تنهض! ألا تستوحش بعيدًا!
ألم تعلم أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه! ألم يأتك أن رُجْعاك إليه يومًا قريبًا!
قد أحبَّ لك أن تلقاه آمنًا مرحومًا؛ فلم يزل يُحَبِّبك ويُرَغِّبك ويُقَرِّبك مما تكون به يوم لقائه كذلك، لم يضرب عنك الذِّكر صفحًا أن كنت من المسرفين.
قد أعد النار يوم أعدها لغيرك؛ ففيم ركضُك أنت إليها وإصرارك عليها! أحالفٌ أنت بين الرُّكن والمقام أن تدخلها؛ فأنت آخذٌ في الوفاء بقسمك!
أليس عجيبًا أن فرض عليك حُسن الظن به والاستبشار برحمته؛ وإن عصيت!
أليس غريبًا أن جعل يأسك من رحمته كفرًا به أكبرَ؛ وإن كنت لذلك أهلًا!
أليس معيبًا أن تكون أحوج محتاجٍ إليه؛ ثم تعامله كالمستغني عنه!
“وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا”! خالعةٌ هذه القلوبَ تُطَيِّرُها، آهٍ وأوَّاهُ وأوَّتاهُ وأوَّهْ!
كيف يا رب أنجيتني من كُرَبٍ عاهدتك في لُجَجها: لئن أنجيتني منها لأكونن من الشاكرين؛ وكنت تعلم علمًا أزليًّا أني لا أُوفي الوعد ولا أحفظ العهد!
رب لو بدا لكل عبادك من بعضهم معشارُ ما بدا لك مني فردًا من أنواع الشنائع والفظائع؛ لقطعوهم ومنعوهم؛ كيف وأنت المحيط خُبْرًا بكل سيئاتي -ما ظهر منها وما بطن، ما دقَّ منها وما جلَّ- لم تقطعني ولم تمنعني! فلولا أنك العلي الكبير، وأنك الغني الحميد، وأنك البر الرحيم، وأنك الواجد الماجد، وأنك الحنان المنان؛ لم تفعل، رباه رباه بأنك الله لم تفعل.
رب لم وقد فرطت في الخير اختيارًا لم تُبَغِّضه إلي! ولم وقد حرصت على الشر تكرارًا لم تُحَبِّبه إلي! فأنا لا أزال -برأفةٍ منك، ورحمةٍ من لدنك- أتعشق الخير وأهله، وأمقت الشر وأهله؛ فإني لأحمدك على هذه -بخاصَّةٍ- حمدًا ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما، عائذًا بك من مكرك.
رب كيف لم ترفع عني سِترك قطُّ؛ وأنا الذي لم يَقْدُره حق قدره!
رب كيف قدَّمْتني في كثيرٍ من أمري؛ وقد أخَّرْتك في كثيرٍ من أمرك!
رب كيف لم تتوفَّني على خطيئةٍ من خطاياي؛ طال ما حلمت علي فيها!
رب كيف تركتني أدخل بيتك مصليًّا؛ وأنت من نهاني أن أُدخل بيتي غير تقيٍّ!
يا من لا تنفعه طاعة من أطاعه كما لا تضره معصية من عصاه؛ اقبل مني ما لا ينفعك وإن كان قليلًا، واغفر لي ما لا يضرك وإن كان كثيرًا.
أفلح الفارٌّون إلى سريع العفو والمعافاة، قد أيقظت أفئدتهم الموعظة؛ “مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ”! رباه شاكرون مؤمنون.
وإن الذي فعله وفيُّ الإسلام
وإن الذي فعله وفيُّ الإسلام ماهر الجازي سائق الشاحنة الأردني؛ لقدَرٌ بليغٌ يقول لكفرة العرب والعجم: إن تكن يدُ الله الزارعة؛ فأيُّ يدٍ منكم النازعة!
“لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته”؛ من يوم جلَّى هذي الحقيقة رسول الإله ﷺ؛ لم يزل ربه يُصَدِّقه فيها بما يَبْهَر ويُدْهِش.
واخجلي منكم رجال الله يوم نلقى الله؛ بالكلام أنا، وبالفعال أنتم! رب إني لم أعمل بأعمالهم؛ لكني أواليهم وأعادي الذي يعاديهم؛ فهَبْنِي يومئذٍ لهم.
بالأمس محمد صلاح من مصر، واليوم ماهر الجازي من الأردن، وغدًا وكلَّ يومٍ أمثالُهما من حيث شاء الله من أرضه؛ رب اجعل الآتية بنا، بمَحْض جودك.
في الحجاب؛ لا تستوي متديناتٌ
في الحجاب؛ لا تستوي متديناتٌ ومتزيناتٌ!
لا تستوي متدينةٌ بالحجاب ومتزينةٌ به، لا تستويان في حجابهما ولا في ثوابهما؛ فأما المتدينة: فالفاقهة حقيقة الحجاب في الإسلام، المقدِّمة في صورته مراد ربها على مراد نفسها، وأما المتزينة: فإما أنها لا تفقه حقيقة الحجاب في الإسلام، أو تفقهها لكنها تقدِّم مراد نفسها على مراد ربها. أيُّ المرأتين أنتِ!