صَهْ وصَهٍ، مَهْ ومَهٍ. هل

صَهْ وصَهٍ، مَهْ ومَهٍ.

هل يستنبت الشأنُ في سورية الحبيبةِ نابتة مداخلةٍ، ونابتة خوارج!

فلهؤلاء -قبل نباتهم- أقول اثنتين:

– ذودوا، لا تذوبوا؛ ذودوا عنهم الكافرين، من غير ذوبانٍ فيهم.

– القوم قدَرٌ يجب أن يستفاد منه، لا شرعٌ يصح أن تُغرقوا الأمة فيه.

ولأولئك -قبل نباتهم- أقول اثنتين:

– عن قطعيِّ المنكرات لا تسكتوا، وإخوانَكم في الله لا تَسْحِتوا.

– موجود السوء: لا توقدوه بالأُتون، ومعدومه: لا توجدوه بالظُّنون.

ليس في الإسلام سكوتٌ عن باطلٍ مراعاةً لزمانٍ أو مكانٍ أو حال وليٍّ أو حال عدوٍّ؛ على أن يكون قطعيَّ الدلالة على الباطل، قطعيَّ الثبوت إلى أهله، في العلن لا في الخفاء، ومن تكلم فبعلمٍ وعدلٍ، ولَمَن راعى العلم والعدل فأولئك ما عليهم من سبيلٍ؛ إنما السبيل على الناهين عن النهي عن المنكر، يحسبون ذلك أرجح للكليِّ العامِّ الأبديِّ على الجزئيِّ الخاصِّ الأمديِّ.

يا إلهي! كيف توهَّمت القضاء في الرجال (بغير سلب المحامد من المخالفين المفارقين، وجلبها للموالفين الموافقين)؛ كيف توهَّمته فعلًا سهلًا!

فإني اليوم -وسطَ العِقد الخامس- أظن ميزان الاعتدال في الرجال من أشقِّ تكاليف الإسلام نظرًا وعملًا: التوسط بين المدح إلى غير سقفٍ والقدح إلى غير أرضٍ، من تخايله سهلًا فهو متخايلٌ؛ كم بالخيال من خبالٍ!

وماذا علينا إذا عرفنا معروفهم دون مَلْأَكَةٍ، وأنكرنا منكرهم دون شيطنةٍ!

ويلَ المُرْهِبين إخوانهم من هؤلاء وأولئك! ما يزيدون القضية إلا رهقًا.

هؤلاء يُخَوِّفون كل منكِرٍ على القوم منكرًا لا ريب فيه، يقولون: سفهاءُ أنتم تُفَشِّلون التجربة، وأولئك يَنظرون إلى كل عارفٍ منهم معروفًا نظر المتكبرين في صورة المشفقين، يقولون: أغرارُ أنتم لا تفقهون شيئًا.

لئن حمدنا ربنا بما عصمنا من خذلان الإخوان -إِبَّان كانوا في صورة الحكم- حمدًا جزيلًا؛ فإنا نثني عليه -تمجَّد وتعظَّم- بأنا لم نسكت عن منكرٍ فعلوه ثناءً جميلًا؛ فكنا -بحول الله وقوته، لا بحولنا وقوتنا- فيهم من المقتصدين.

كذلك تولانا مولانا في المناضلين عن بيت المقدس، فجعلنا فيهم وسطًا؛ نقول في قولهم في قاسم سليماني وحسن نصر اللات: هذا منكرٌ من القول وزورٌ، ونقول في بدائع الروائع التي يفعلون: عملٌ مبرورٌ وسعيٌ مشكورٌ.

أفرأيت لو كان في أحبابك -أعاذك الله وإياهم- من فشِلت كُلْيَتاه وكبدُه وضرب السرطانُ عامَّة جسده؛ فإنك ترجو بشطر قلبك أن يُشفى من كل ذلك شفاءً لا يغادر سقمًا، وترجو بشطر قلبك لو شُفي منه بُعَيْضُ ذلك فاستبقى حياته؛ فإنا كذلك في الفاتحين من إخواننا والغامقين كلما وأينما وكيفما مُكِّن لهم؛ ننظر بعين الشرع إلى ما تركوا من الحق فنقول: تلك طريقةٌ لا تُبَلِّغنا ما نصبو إليه، وننظر بعين القدَر إليهم فنقول: لله الحمد بما جاوَزوا بنا سوء ما كنا عليه، ثم لا تكون وظيفتُنا فيهم خَلْع ثوب الشريعة على تصوراتهم وتصرفاتهم بمُجَرَّد إسلامهم، وذلك محضُ التوفيق، طوبى لمن هداه الله إليه وأقدره عليه.

إن من أحبتي هنا الفاتحين والغامقين من أنظر إلى موفور خير الرب فيه، فأدعو الله أن يمكن به، ثم أنظر إلى طول مكثه في الوكس أو الشطط فأدعو الله (ما بقي كذلك) ألا يمكن له؛ إنه ما تمكن (وهو كذلك) جار علينا جورًا عظيمًا.

إن الذين يقومون في رجال المسلمين وطوائفهم بمعرفة معروفهم لا يهابون أَسِنَّة الماقتين، وبإنكار منكرهم لا يخشون ألسنة العاشقين؛ لهُم -على الحقيقة- أولى الناس بهم في الدنيا والآخرة؛ نرجو الإله أن نكون منهم مدة الحياة.

ثم تارةً أخرى أقول:

طول مكث الناس في ظلمات الاستضعاف؛ طَرَّف قومًا إلى استمراء سوادها، وقومًا إلى استعجال كمال أضدادها؛ فالأولون احْلَوْلَى لهم الهوان فهم يعادون كل ساعٍ لإعتاقهم منه، والآخرون ظِماءٌ إلى التمكين فهم يحسبون كل مُتَأَنٍّ فيه يصدهم عنه، وأُولو الإسلام والنُّهى بين الوَكْس والشَّطَط يسترشدون الله.

أيعجز أحدنا أن يكون في الذي بين المسلمين من شقاقٍ؛ عبدًا حَسنيًّا!

الحَسنيون: المقتدون بسيدنا الحَسن بن عليٍّ عليهما رضوان الله، القائلِ فيه جدُّه المعظَّم ﷺ: “إن ابني هذا سيدٌ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين”، أولئك الحَسنيون الذين يعرفون معروف المسلمين وينكرون منكرهم؛ لكنهم -إذ يُحِقُّون الحق، ويبطلون الباطل- لحظوظ أنفسهم مجتنبون، ولعموم مصالح المسلمين مجتلبون، إنما تحيزهم للحق أين كان، فأما أن يكون تحيزهم لطائفةٍ مهما رشدت أو غوت؛ فلا، أولاء متحيزون لا يُمَيِّزون.

يا حيُّ حين لا حي، يا قيوم كلَّ افتقارٍ؛ اجمع لنا بين قاعدَتي شريعتك المثلى: إحقاق الحق، وإنصاف الخلق، وصِل بنا ما أمرت به أن يوصل، واجعل رَغَبَنا ورَهَبَنا فيك أنت، وأعِذنا من الظلم كلِّه؛ دِقِّه وجِلِّه، جِدِّه وهزلِه، علانيتِه وسِرِّه، خطئِه وعمدِه؛ أن تُنْقَض ظهورُنا يوم التغابن، ومتِّعنا بالعدل حتى نلقاك.

يقولون كأنهم حكماء محنَّكون: لا

يقولون كأنهم حكماء محنَّكون: لا يُطلب الاهتمام من المحبوب.

يا حبيبي؛ يرحم الرحمن قلبك جاع أو شبع؛ بل يُطلب الاهتمام؛ لكن من أهله (الذين هم أهله)؛ تذكيرًا بحق الحب، وإعانةً على ديمومة القرب، فيكون -بهذا الميزان- تحقيقًا لا تخليقًا: تحقيقًا لكمال المودة، لا تخليقًا لأصلها.

يا حبيبي؛ محبوبك إنسانٌ، مجبولٌ على الجهل والضعف والنسيان، ومن ثبتت مودته بيقينٍ حَرُم التفريط فيه بالظن.

يا حبيبي؛ لم يزل الله يذكِّر أحبابه بما له عليهم من حقوقٍ؛ بأنه أحاط بتقلُّبات نفوسهم بين الانقباض والانبساط خُبرًا.

يا حبيبي؛ المحبون إذا عجزوا عن التغافل قدروا على التغافر، وما لم يكن طلبك الاهتمام مطاوعةً لداعي الألوهية الخفيِّ فيك؛ فعاتب حبيبك رفيقًا نبيلًا، فإذا ما ابتغى محبوبك الخروج من سخطك بعذرٍ؛ فافتح له من فوره سبيلًا.

يا حبيبي؛ ما كان حَرَم الحب آمنًا فادخله بسلامٍ، أوَلَم تُحْرِما عند ميقاته بإزار الذل ورداء الإيثار! فقِف بعرفاته، وطُف بكعبته، واسْع بين صفاه ومروته.

يا حبيبي؛ الحب كالحج عبادةٌ؛ كما نأخذ عن نبي الله ﷺ مناسكه لا عمَّن سواه؛ نأخذ عنه شمائل الحب لا عمَّن عَداه؛ إنه سيد من أَحَب وأُحِب، والمقياس وحده لا شريك له في الاتباع، من استضاء بنوره فيه لم يَبِت باكيًا ولم يصبح شاكيًا.

يوم القيامة الضرورة القصوى. أقولها

يوم القيامة الضرورة القصوى.

أقولها كلما جد عاصفٌ قاصفٌ من أنباء السادة الأسرى.

جليلٌ هو اختلاف آراء أولياء الله اليوم في أعداء الله؛ هل يعذبونهم قبل قتلهم؟ أم يسرعون بقتلهم؟ وأنا -أخو القوم هَوًى وهُدًى- أُرَجِّح للطائفتين فأقول: لئن كنا في حالٍ أوسع من هذه؛ فالتعذيب مقدَّمٌ على القتل؛ فإن الجمع أولى من الترجيح، فإنه إعمالٌ والترجيح إهمالٌ، وتلك سنة عظيم الممكَّنين ذي القرنين عليه السلام، “قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا”؛ لكن أخشى ما أخشاه الساعة؛ أن يَعرض عارض سوءٍ داخلَ سورية أو خارجَها -عِياذًا بملك الملوك ولِياذًا- فلا يكون هذا وذاك، فتعجيلهم إلى جهنم أحرى، وهل دون الخلود في لظى نزَّاعةِ الشَّوى تَصهر ما في بطونهم والجلودَ في مقامعَ من حديدٍ؛ هل دون ذلك -وسائرِ أهوال جحيمها- شافٍ لغيظ الصدور!

فأما إن كانت الحال أوسع من هذي؛ فأَهْوَن ما يليق بهم وأَدْوَن ما ينبغي لهم؛ أن يُوكَل تعذيبُهم بأطباء عماليق الخبرات، يعذبون عظامهم ولحومهم وأعصابهم وجوارحهم -ما ظهر منها وما بطن، ما دقَّ منها وما جلَّ- عذابًا أليمًا مهينًا لا يموتون به ولا يحيون، فإذا سئمنا ذلك أضرمنا -متثائبين- في بقاياهم نارًا هادئةً، ثم لا نرى هذا في جنب ما فعلوا بديننا وأعراضنا ودمائنا وبلادنا شيئًا.

اللهم كما أهلكت البوطي؛ فأهلك بأيدينا ثالوث الأزهر.

يوم القيامة الضرورة القصوى.

هو لفرط الحذر خائفٌ من

هو لفرط الحذر خائفٌ من الفرح؛ فهل على فؤاده الغَضِّ من جُناحٍ؟

يا حبيبي؛ لو لم يكن فيما ترى غير فكِّ الأسرى؛ لكان كافيًا في طيران قلبك من شدة الفرح؛ كيف ومِنَّة الرحمن في إزاحة عدوِّه والمسلمين كبرى!

يا حبيبي؛ مهما يكن من سوءٍ تحاذره فإنه لو كان؛ لا يُقَايَس بما قبع فيه المسلمون عقودًا من دَوَاهٍ في الدين والعِرض والدم والعقل والمال.

يا حبيبي؛ من قارن بين حكم الإسلاميين (فاتحِهم وغامقِهم) وبين حكم الطواغيت؛ صلُح بالُه؛ فإنهم -على عُجَرِهم وبُجَرِهم- لا يحاربون الإله.

يا حبيبي؛ أغطشَ السوادُ الواقعَ حتى كدنا نقول لا صباح، ولقد كان يسوؤنا ما يَنقص في الناس من الإسلام، فاليوم يُقِرُّ أعيُننا الذي بقي فيهم منه.

يا حبيبي؛ لسنا بسَوآت الذين تحاذر جاهلين ولا عن سيئاتهم ذاهلين؛ لكنَّ طمعنا في الله بالذي فيهم من الإسلام كبيرٌ، نرجو الله لهم وبهم إعزاز الملة.

يا حبيبي؛ الذي بيننا وبين أعدائنا عداوةٌ وبغضاء، والذي بيننا وبين إخواننا (فاتحِهم وغامقِهم) -أينما وَلُوا- أخذٌ وردٌّ؛ فعُذ بالله من شططٍ وغُلَواء.

يا حبيبي؛ استتمِم الله خيرَه بحق ما بقوله: “وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلۡحُسۡنَىٰ عَلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ بِمَا صَبَرُوا۟ۖ”، وما رأيت منكرًا فأنكره لا تخف في الله لومة لائمٍ.

يا حبيبي؛ حدِّث نفسك: عمَّا قليلٍ أفتح لأسيرٍ باب زنزانته، يجعل ربي بي جدرانها دكًّا، فتَخِرُّ آلامُه هدًّا، ويفيق من لُبْث الغم بين ذراعيَّ يقول: سبحانك!

يا حبيبي؛ ليَبلغن هذا الدينُ ما بلغ الليل والنهار، إن الله صادقٌ عبادَه وعدَه؛ لكن أنَّى لما نُقِض في دهورٍ أن يُبنى بين عشيةٍ وضحاها! فتَرَوَّ لله لا تعجل.

يا ذا المعارج؛ قد جعلت يومنا خيرًا من أمسنا؛ فاجعل غدنا خيرًا منه.

الله أكبر عدد خلق الله،

الله أكبر عدد خلق الله، وهل لخلقه من عدٍّ!

الله أكبر رضا نفس الله، وهل لرضاه من حدٍّ!

الله أكبر زِنَة عرش الله، وما أعظمُ من العرش!

الله أكبر مداد كلمات الله، وما لكلماته من نفادٍ.

أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله.

نعوذ بفالق الإصباح من شر غاسقٍ إذا وقب.

الأماجدَ الفاتحين؛ اذكروا صلاة الفتح، واغتسلوا لها.

في ثامن ديسمبر سنة سبعةٍ وستين وُلِد ماهر الأسد؛ فسبحان الديان!

صبَّح الإله أبا مصعبٍ حيث يعلم مكانه بالبِشر الوفير والرَّوح الكريم، وصبَّح قاسم سليماني في جدثه بعذابٍ من رجزٍ أليمٍ، وامدُد -مجوسيَّ الزمان- مذؤومًا مدحورًا بسببٍ إلى السماء، ثم اقطع، فانظر؛ هل يُذْهِبَنَّ كيدُك ما يغيظ!

تبارك المليك المقتدر وتعاظم، ربنا أوزِعنا أن نشكر أنعُمك التي أسبغت علينا، وقرِّب يوم مصر وأخواتها من فتحٍ أتمَّ وأعمَّ، واجعلنا في مبتداه أبوابًا وإلى منتهاه أسبابًا، تُبْهِج بصنائعنا مُهَج الأُسَارى، وتَصْدُق بنا جهنم ما وعدتها.

تتلو علينا الشام من سورة

تتلو علينا الشام من سورة النصر آيةً.

اللهم كمالَ السورة، اللهم تمامَ الصورة.

ومن المسلمين كرامٌ خائفون الفرحَ، لا نستهزئ بهم.

إنما فرحتُنا بالحركة كيف كانت، لا جَرَم أن الحركة بركةٌ.

لله الحمدُ جزيلًا وعليه الثناءُ جميلًا؛ بما أغرى وليَّنا بعدوِّنا.

لعن الله السكون الذي يستديم العدو؛ كيف والأرض تغلي!

نرى كل نظامٍ لهم كَوْمَ زُبالةٍ مرتَّبًا، وبالفوضى نُنَظِّم ما نشاء.

الضامُّون قضاءات الرب في البلاد بعضًا إلى بعضٍ؛ يتباشرون.

فمن أخيبُ من مُتَهَجٍّ أحرُفَ المَاجَرَيَات معزولةً عن سائر الكتاب!

يا الله؛ كما أخرجت من أسراهم؛ فأخرج كل أسرانا، يدَك فوق أيدينا.

إنا لقومٌ نقرأ قدَر الله على قدْر الله، قرأنا القدَر: عمَّا يسيرٍ كلُّ أسيرٍ.

عمَّا يسيرِ زمنٍ يُخرج الله سائر الأسرى، إذا أراد شيئًا قيَّض له دواعِيَه.

يقاتلك عدوك فيما يرفضه، ثم يعاملك فاعلًا بما تفرضه؛ فلهذا فتهيَّأ.

أمريكا لا تبدئ وتعيد، ولا هي ذات العرش المجيد، ولا الفعَّالة ما تريد.

إلهَنا؛ لا مسكِّن لِمَا حرَّكت، آمنَّا بك المَلك؛ اجعل إيالات المقادير لنا خيرًا.

عجبت لقليل الطاعات؛ كيف يفسدها

عجبت لقليل الطاعات؛ كيف يفسدها -وهي قليلةٌ- بالرياء!

الرياء خطيئةٌ غير معقولة المعنى؛ فإن العبد لم يُحْدِث الطاعة إلا بشرع الله وقدَره، لولاهما من لدنه ما كانت الطاعة منه؛ أفيَتوجه بما لم يكن إلا من ربه إلى من لم يكن منه فيها شيءٌ!

ثم إنه جهلٌ مضاعَفٌ؛ بصفات جمال الله وجلاله التي بها استحق توحيد القلوب بالقُصُود والألسنة بالأقوال والجوارح بالأعمال، وجهلٌ بما وعد الله على الإخلاص من حاقِّ الحظوة وأبديِّ الكرامة، وجهلٌ بما توعَّد على الإشراك من خزي الدنيا والآخرة والبرزخ بينهما، وجهلٌ بصفات المخلوقين الدائرة بين الجهل والعجز من الذين يقصدهم المُرائي بعمله، وقد يُجْهِد المسكين نفسه في ريائهم ثم لا يرون عمله أصلًا، أو لا يرونه كما حسَّنه وزاد فيه، أو يرونه -جزاءً من الله بنقيض قصده- على ضد هيئته، أو يرونه على هيئته -فتنةً من الله غيرَ ظالمٍ له- لكن يفوتهم الإعجاب به والثناء عليه، ثم إنهم إذا رأوه على ما يريد المُرائي كمالًا وأثنَوا عليه به تمامًا؛ ذهب كل ذلك بذهابهم، ولم يَبق له عند الله في الآجلة شيءٌ! فيالَلَّهِ الحسرةُ البالغةُ من فوات شكر الرب الذي لا شكور مثلُه في نوع شكره وكَمِّه وكيفِه! به الغوث.

ثم إنه ظلمٌ عظيمٌ؛ إذ يضع العبدُ الطاعة في غير موضعها؛ فإن الله -جلَّ ثناؤه- هو الذي هدى إلى الطاعة نظرًا، ويسَّرها عملًا، شارحًا بها الصدر، مريحًا لها القلب، مصلحًا بها البال، فإذا البائس -مع هذا كلِّه- يقصد بها غير وجه ربه الأعلى، وهو ظلمٌ للنفس كذلك؛ إذ يمنعها العبد بالرياء حظوظها من رُوح العبودية ورَوحها، ويَجرح بسِكِّين الرياء توحيدها، ويُضَيِّع عليها ثواب الآخرة الأبقى، ومن قبلُ ومن بعدُ ما يَلحق النفسَ بالرياء من الدُون والهُون في نفسها وعند مولاها علا وتعالى.

ثم إنه فقرٌ شديدٌ؛ فلولا إملاقُ نفس المُرائي وبؤسُها؛ ما غدا وراح يتسوَّل عبادًا محاويجَ معاويزَ لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضَرًّا، هذا، وإن من النفوس نفوسًا غنيةً بما أولاها الرحمن من الكمالات البشرية والإيمانية؛ لا ترجو من ضعيفٍ قوةً، ولا تَنشد من مفلسٍ غنًى، ولا تبتغي من معدومٍ وجودًا.

أيها القاصدون بأعمالهم وجوه الموتى؛ لو أن قلوبكم شهدت جمال الرب الحي؛ ما بَغَيتم عن وجهه الأكرم حِوَلًا.

يا آل كل شهيدٍ؛ هل

يا آل كل شهيدٍ؛ هل يُطَيِّب نفوسَكم رجوعُ شهدائكم إليكم تارةً أخرى!

فإن رجوع الشهداء إلى الدنيا تارةً أخرى ليس ممتنعًا لذاته، ولقد أمات الله طائفةً من خلقه ثم أحياهم، كما قص علينا في التنزيل قصصهم؛ لكن الله إذا رجَعهم إليكم كما تشتهون؛ فليَشْتَهُن هم الرجوع إليه بالشهادة مرةً بعد مرةٍ.

ألستم تصدِّقون خبر نبيكم -صلى الله عليه وسلم- ما لا تصدِّقون أعينكم! فإنه قال: “ما أحدٌ يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيءٍ؛ إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيُقتل عشر مراتٍ لِمَا يرى من الكرامة”.

يا أم الشهيد، يا أباه، يا أخته، يا أخاه، يا زوجه، يا عياله، يا أرحامه، يا أصحابه؛ خيرٌ من ذَهاب أنفسكم على شهيدكم حسراتٍ؛ أن تعملوا مثل عمله فتموتوا مثل ميتته؛ فإنا لا محالة عاملون أحد العملين فميتون إحدى الميتتين؛ فقَرُّوا أعيُنًا.

يا آل كل شهيدٍ؛ إن الشهداء عنكم في شغلٍ فاكهون؛ بلَّغنا الله ثأرهم.

هَلُمُّوا أربابَ الخطايا؛ “السيف محَّاء

هَلُمُّوا أربابَ الخطايا؛ “السيف محَّاء الخطايا”؛ قاله الضَّحوك القتَّال ﷺ.

أخي يا شقيق الإسلام؛ اقرأ هذا الكلام لجَدِّك الحسن البصري.

اقرأه، ثم انظر الفرق بين منطق سلفك ومنطق كلام عامة دعاة اليوم.

اقرأه، ثم اقرأ حاشية الكلام عليه لأَشهد وإياك الحق وحقيقته.

قال: “إن لكل طريقٍ مختصَرًا، ومختصَر طريق الجنة الجهاد”، وكان الرجل إذا اشتكى إليه كثرة الذنوب؛ قال له: “اجعل بينك وبينها البحر”، يعني الغزو.

هذا منطق الفقهاء بالنفوس حقًّا، يرون الجهاد مَخرجًا للناس من ذنوبهم، وهو الذي أراد الله لهم منه قدَرًا وشرعًا.

اليوم يُعَوِّقك عن الجهاد دعاةٌ بل جماعاتٌ! يصدُّونك عنه بدعوى ذنوبك! وأنك لست أهلًا للجهاد ما دمت تعصي!

لعلك تحسب هذا رأيًا للحسن البصري رضي الله عنه، والحق أنه عقيدةٌ من عقائد القرآن والسنة لمن تدبرهما.

هاكُم هذه: “فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ”؛ يا من تريدون بيع الدنيا بالآخرة؛ جاهدوا.

إنها ليست آيةً واحدةً؛ إنه القرآن من أوله إلى آخره، يربط بين مغفرة الذنوب وبين الجهاد ربطًا وثيقًا؛ أما أوله فقوله ﷻ بسورة البقرة على لسان الرسول والمؤمنين: “وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ”، وأما آخره فسورة النصر: “إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا”.

إنك لتقرأ حديث القرآن في سورة آل عمران عن الجهاد؛ فإذا آيةٌ فيه عن الغُلول في الجهاد، والغُلول: أخذُ الشيء من المغانم خِفيةً، سبحان الله! من يأخذ من مغانم الجهاد خِفيةً يا رب! إنهم بعض المجاهدين، المجاهدون القائمون بذروة سَنام الإسلام يا رب! المجاهدون الذين يهاجرون ويغتربون ويكابدون أنواع الأهوال يا رب! المجاهدون الذين يبذلون بالجهاد دماءهم وأرواحهم رخيصةً في سبيلك يا رب! أجَل هم المجاهدون؛ إنهم -وإن كانوا خير أهل الأرض قاطبةً- بشرٌ؛ يجاهدون حين يجاهدون بنفوسٍ بشريةٍ وقلوبٍ بشريةٍ وعقولٍ بشريةٍ لا ينفكُّون عنها، يزيد إيمانهم ب‍الجهاد وينقص بنوازع النفوس، ثم تُبَدِّد أوهامك عن الذنوب وحيلولتها بينك وبين الجهاد آيةٌ أخرى في حديث آل عمران نفسِه، آيةٌ يقول الله فيها لأصحاب نبيه صلى عليه ورضي عنهم: “مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا”، سادة العالمين بعد أنبيائك منهم من يريد الدنيا يا رب! أجَل هم الذين أراد بعضُهم الدنيا وقد خرجوا مع رسول الله مقاتلين في سبيل الله.

هل أتاك أن في الفقه بابًا اسمه “حكم إقامة الحدود في دار الحرب”! وبقطع النظر عن تفصيل هذه المسألة؛ فإن حَسْبك العلم باختلاف الفقهاء في الحكم بعد تصورهم لوقوع موجبات الحدود من بعض الغزاة في سبيل الله.

فأما السنة؛ فحَسْبك منها العلم بخطأ أسامة بن زيدٍ (الحِبِّ ابنِ الحِبِّ) في قتل نفسٍ بعد إسلام صاحبها، وخطأ خالد بن الوليد (سيفِ الله المسلول) في قتل جماعةٍ من الناس بعد إسلامهم؛ فماذا صنع رسول الله ﷺ! تبرأ إلى الله مما فعلا ولم يتبرأ منهما، ولم يُشَنِّع الصحابةُ عليهما، ولم يقل قائلٌ قبل الجهاد: لا يقاتِل الذين لم يتأهَّلوا للجهاد بترك المعاصي، ولا قال قائلٌ بعده: أمَا وقد عصى من المجاهدين من عصى فلا جهاد لهم تارةً أخرى؛ رضيهم الله.

تلك حقيقة الحق التي أردت من حاشيتي هذه على كلام سيدنا الحسن البصري رضي الله عنه؛ الجهاد فريضةٌ على كل مسلمٍ، والمسلم لا ينفكُّ عن معصيةٍ من المعاصي جاهد أو لم يجاهد؛ بل قد يقارف المجاهد في سبيل الله كبيرةً من الكبائر، بل قد يكون ظالمًا لبعض الخلق، بل قد يكون على بدعةٍ من البدع، بل قد يَركب ناقضًا من نواقض الإسلام وهو جاهلٌ أو متأولٌ أو مخطئٌ، إنه مسلمٌ يعلم ويجهل ويصيب ويخطئ، وإن ظل مُنْمَازًا بشرف الجهاد الأمجد.

فمن قال لك: من أنت أيها المذنب -بتَركك واجبًا، أو بفِعلك محرَّمًا- لتجاهد! فقل له: أنا لأجل ذنوبي -ما ظهر منها وما بطن- أريد الجهاد؛ أريد الجهاد خلاصًا منها بمغفرة الله العامة التي وعد على الجهاد، أريد الجهاد فإما نصرٌ عسى ربي أن يجعل جزاءه توبةً منه علي، وإما شهادةٌ عسى ربي أن يغفر لي بها ما قدمت وما أخرت بأول قطرةٍ مهراقةٍ من دمي، أريد الجهاد ابتغاء رفعة ديني الذي فرَّطت في قدْره ما فرَّطت، أريد الجهاد ابتغاء عزِّ أمتي التي قصَّرت في حقوقها ما قصَّرت، أريد الجهاد جبرًا لمكسور ما بيني وبين الله.

رضي الله عن الحسن، وداوِ اللهم بالجهاد عِلَلَنا، واغفر به زَلَلَنا، وسُدَّ به خَلَلَنا.

هل أتاك حديث صنعة المجاهدين!

هل أتاك حديث صنعة المجاهدين!

صنعة الحياة بالموت؛ يُزهقون أرواحهم ليحيا العالَمون.

تلك صنعةٌ قَصَرها المنَّان عليهم، وحَصَرها فيهم، “نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ”.

أيها الراسخون في الأرض الشامخون إلى السماء؛ لو كانت الأعمار توهب لوُهِبت لأجلكم، رخيصةً لكم نفيسةً بكم؛ أنتم النافعون بالذلة الأولياء، الضَّارُّون بالعزة الأعداء، حُرَّاسُ الديار حُفَّاظُ الأعراض صُوَّانُ الأموال حُمَاةُ الدين، مَن اجتباكم ذو الجلال والإكرام ببَيْع النفوس ابتغاء رضوانه الأكبر.

ما عَسْعَس على الإسلام ليلٌ، ولا تنفَّس على المسلمين صُبحٌ؛ إلا وأنتم أرضى أهل الأرض أعمالًا، وأشبهُهم بأهل السماوات أحوالًا، أهنأُ المؤمنين في الدنيا عَيْشًا، وأحظاهم في الآخرة جزاءً، قد أمسى الفرق بينكم وبين جميع مَن عَداكم جسيمًا، “وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا”.

لولا أنتم أينما كنتم لكُنا أَرِقَّاء صاغرين؛ في علِّيِّين شِبَعُكم كما تجوعون، وعند ربكم رِيُّكم كما تظمئون، ومِن لَدُنْه أمنُكم كما تخافون، ويوم زيارته أُنْسُكم كما تستوحشون، وفي سبيله ما تُقاسون من غرائب الأهوال وتُكابدون، لقد وجدتم ربكم كما لم يجده غيرُكم فما تفقدون! وقد أفلح السائحون.

عليكم سلامُ الله الذي معناه أمانُه مُمَسِّكين بالكتاب، ورحمتُه التي خيرُها غفرانُه مزاحمين بالشرف السَّحاب، وبركاتُه التي غايتُها رضوانُه هازمين بالثبات الأحزاب، وعلى من ناصركم فأدرج نفسه في أُولي الألباب، ولِمن عاداكم وخذلكم عذابُ الخزي في الدارين والتَّباب؛ عُذْنا بالله ولُذْنا.

توقيعُ أطفالٍ قعودٍ بكم يَكبرون، مهما جهلوا من الأمور فبأقداركم عالِمون.

لا جَرَم أنها طفولةٌ في جنب حاقِّ الرجولة حتى ندرككم.

لقد أتاك حديث صنعة المجاهدين.