رسالةٌ من والدة أسيرٍ لو

رسالةٌ من والدة أسيرٍ لو اطَّلعتم عليها؛ لتفطَّرت أفئدتكم نَصَبًا ووَصَبًا.

فيها لا تشكو المكلومة قسوة الطواغيت؛ بل سآمة أبنائها الجدعان زيارةَ أخيهم.

تفصِّل القول في معاناتها كلَّ زيارةٍ؛ إذ تطوف عليهم بالإلحاح جميعًا.

يقول أحدهم: هو اللي جابه لنفسه، ويقول الآخر: جهزي زيارته انتِ وانا مالي.

آنَّةً تقول العظيمة: مش كفاية وشِّي اللي جَفِّفه كُتر السَّلَف لزياراته!

تسافر إلى ولدها مسافةً طويلةً قصَدها كفارُ مصر؛ إمعانًا في التنكيل بالأحرار.

تقصُّ قصة شقائها في إلحاحها على أبنائها، واستطالتهم عليها لذلك.

تحكي حكاية كل خطوةٍ من خطوات تجهيز الزيارة؛ ما قبلَ وما بعدَ وما فيها.

الاقتراض، الشراء، الطهي، السهر، الإلحاح، الوَحدة، طول الطريق.

أما عذابات الانتظار هناك، وما في الزيارة من أهوالٍ يَخبُرها أهلها؛ فلا تسَل.

ثم إن الجدعان إذ يتركونها وحدها؛ يتقلَّبون بين نومٍ ولهوٍ؛ واغوثاه!

أشدُّ ما يوجع روحَك في حروف المرأة؛ معنى الخوف، الخوف مهيمنٌ عليها.

ألَّا تجد مالًا، ألَّا يكفي حاجة الحبيب، أن يَتلف الطعام، إباءَ أبنائها.

أما رعبها من وحشة الطريق، ومنعِها رؤيتَه، وعودتِها بالطعام؛ فيُقيم القيامة.

آليتُ عليها ألا تسأل أبناءها مثقال ذرةٍ، وأن تستأثر بالكرامة وحدها.

أَنفرض المعالي على السافلين فرضًا!! أم نُلزمهم المراحم وهم لها كارهون!!

خمسُ سنين والشيخة الكبيرة السقيمة على حالها، والأوباش قاعدون.

يحسب زائر الأسير لزيارته حساباتها، ويحسب الأسير دقائق الزنازين حسابًا.

يشتهي الزائر إرجاء الزيارة أسبوعًا، ويشتهيا الأسير لحظةً واحدةً.

إن المليك حقٌّ ديانٌ؛ لن تضيع عنده مثاقيل ذَرِّ صنائع الأعداء والأولياء جميعًا.

يا عباد الله البررة؛ اتقوا خُطوب الدنيا والآخرة بموصول الإحسان.

لمثل هذا ونحوه كتبت ذلك الحرف قديمًا؛ ربَّاه فلا تجعل عقوبتنا غلظة أكبادنا.

إن الذين يطول بلاؤهم؛ يضعُف شعور أكثر الناس بهم.

الأسرى إذا طال حبسُهم، المُطارَدون إذا طال شَعَثُهم، المرضى إذا طالت أسقامُهم، المكتئبون إذا طال غمُّهم، المساكين إذا طال عَوَزُهم؛ أطيلوا أنفاس نفوسكم فيهم يَطُلْ فيكم عونُ الله، قد أفلح المواسون.

اللهَ اللهَ لا تألفوا آلام المُتعَبين؛ الأيامٌ دُوَلٌ والليالي حُبَالَى.

غيرَ متفكِّهٍ كتبت هذه المقامة،

غيرَ متفكِّهٍ كتبت هذه المقامة، غيرُ ملومٍ من رآها فاستطالها؛ امض عنها بسلامٍ وأنت حبيبي.

هو مُسْنَدٌ في القراءات العشرة الكبرى، قد عزم يوم طَرَقَها أن يُحيط بها خُبْرًا، فحفظ لها متونًا وتحريراتٍ، وأتقن بها شروحًا وتقريراتٍ، إسناده فيها أعلى الأسانيد، وتجويده إياها أحكمُ التجويد، قد تلقَّاها من مشايخَ مشاهيرَ عِدَّةٍ، وصَبَر نفسَه في حَذْقِها أطولَ مدةٍ؛ حتى صار يشارُ إليه فيها بالبَنان، ويقصده طلابها النُّجباء من كل مكانٍ؛ لكنَّ شيوخه الدراويش لم يُعرِّفوه الجاهلية التي ما نزل القرآن إلا لحربها، ولا الطواغيتَ المانعين مساجدَ الله أن يَحكم فيها القرآنُ سُعاةً في خرابها، إذا رأيته يُحَرِّر قراءتها ويُحَبِّر تلاوتها أتبعتَ بصرَك السماع، فإذا تحقَّقتَ جهلَه بحقائق القرآن الكونية والشرعية توليتَ عنه بإسراعٍ، لا تعزُب عنه قراءةٌ عَشْريةٌ في النساء والمائدة والأنعام؛ لكنه جهولٌ بأنها معاقد الحاكمية والحُكم والأحكام، قد أحصى ما في “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ” من رواياتٍ متواترةٍ، وغفل عما فيها من فرائض التوحيد الفارقة ونواقضه الظاهرة، وكم تبصَّر ما في “أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ” من طُرُقٍ صحيحةٍ! وتعامى عما فيها من براهين تكفير المبدِّلين الشرائعَ الصريحة! غيرُ سائغٍ نظرًا فيما درَّسوه وضعُ وجهٍ مكانَ وجهٍ في بعض آيةٍ؛ لكنْ سائغٌ عملًا إحلالُ دينٍ جاهليٍّ مكانَ دين الله أجمعَ بلا نهايةٍ، يسمع مُلَفِّقًا بين القراءات في آيةٍ واحدةٍ فتثور منه الخوامد، ثم يرى المبدِّلين عقائدَ الإسلام الطامسين شرائعَه فتراه الجامد الهامد، قد ذاكر طالبًا صغيرًا ألفَ باءَ هذا العلم الشريف فميَّز بين الأصول والفُروش، واليومَ شيخًا كبيرًا لا يميِّز في المعركة بين المَطاهر والحُشوش، لو خطر على بال الشاطبي وابن الجَزَري أن مثله يحفظ مُتونهم ما نظموها؛ بما وَرِث عن أشياخه الدراويش التفريقَ بين القرآن فمبانيَه أتقنوها ومعانيَه ضيعوها، ألا ليت شيوخه إذ عرَّفوه بالإمام “قنبل” راوي ابن كثيرٍ المكي عرَّفوه ضرورة القنابل، وليتهم حين فرَّقوا له بين خَلَفٍ راويًا وإيَّاه قارئًا فرَّقوا له بين الحابل والنابل، يضحك مِلْءَ شِدْقَيه إذا خلط خالطٌ بين رَاوِيَيْ أبي عمرٍو البصري “الدُّوري والسُّوسي”، وتضحك منه الثكالى وهو يؤصِّل بالأدلة لحاكمية خنثى الطواغيت السيسي، ألا إنه لو لقي الله يَتَتَعْتَعُ في القرآن وقد جاهد في سبيله وإنْ باللسان؛ لكان خيرًا له من أن يلقاه ماهرًا به ضالًّا عن غاية إنزاله بالإثم والعدوان، لقد رضي رسولُ الله من رجلٍ عَجْزَه عن القراءة في الصلاة جميعًا؛ لكنه إذا لقي يوم الحشر قارئًا بالعشر مواليًا عدوَّه سَخط عليه صنيعًا، لعل المكاثر بالقراءات لم يَبلغه “أكثرُ منافقي أمتي قرَّاؤها” وعيدُ الرسول المَهيب، فلم ترعبه حروفه كما أرعبت السابقين الصِّدِّيقين حتى باتوا بها في نحيبٍ، ألم يأت البعيدَ نبأُ “أولُ من تُسَعَّر بهم النارُ” وأولهم قارئٌ للقرآن! وأي شيءٍ أوجبُ لعذاب صاحب القرآن من موالاة أعداء الرحمن! حسبُنا “يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا” من كتاب الله كله لنفقه الصراع؛ كفى بإظهارنا القرآنَ جُرمًا يُسْحِتُنا به أعداؤه بكل مستطاعٍ؛ يا هذا إنك إن تركتهم لا يتركونك؛ يعيدونك في ملتهم إذا ظهروا عليك أو يقتلونك.

هذه مقامةٌ لا تُزَهِّدك في هذا العلم الجليل، ولا تُرَغِّبك عن أهله السادة الأكابر؛ لكنها تُخَوِّفك عُرَى القرآن الثلاثة هذه؛ (حاكمية القرآن، والموالاة والمعاداة به، والجهاد في سبيله)؛ أن تُنْقَضَ من قِبَلِك وأنت له طالبٌ، وبقراءاته ورواياته وطُرُقه ووجوهه مكاثرٌ؛ إنها بإيجازٍ تقول: “خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ”.

لا يغيظ عقلَك -وباطنُ الحوادث

لا يغيظ عقلَك -وباطنُ الحوادث أوفى من ظاهرها- مِثْلُ مُحَلِّلٍ! لا ثَبَتَ ولا نَبَتَ، ثم هو يجزم بما يَهْبِدُ جزمًا عجبًا؛ كأنما فُتح للمُلْهَم لوحُ الله المحفوظُ فهو يُملي منه على الجهلاء أمثالِنا بكرةً وأصيلًا!

أمَا إنه لو كان ذا تبصُّرٍ وتشرُّعٍ؛ لمَا ساغ منه القطعُ بما يدقِّق ويحقِّق؛ بل يتكلم -بعد تأسيسٍ وابتناءٍ- بغلبة الظن، وذلك حَسْبُه عند الله وأُولي النُّهى؛ فكيف بالسادة المُبْلِسين إفلاسًا المُفْلِسين إبلاسًا!

أمَّا الوُضَعاء وضَّاعو الأخبار (عُوَيْرٌ وكُسَيْرٌ وثالثٌ ليس فيه خيرٌ)؛ فعقوبتهم في الدنيا ما قارفوا من رجس الاختلاق؛ هو نفسُه جزاؤهم لا أخزى منه لو كانوا يشعرون، ثم يوم القيامة هم الكذابون.

يا أُولي الألباب؛ “لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ”؛ فهذا أولُ حوادث طبقكم الذي أركَبَتْكُمُوه مقاديرُ الله -اليومَ- لا آخرُها، عن طبقٍ مضى غلب سكونُ ظاهره هِياجَ باطنه، إلى طبقٍ يأتي ربُّكم بشأنه خبيرٌ.

ألا إني أوصيكم ونفسي بتقوى الله الذي له الحاكمية والحُكم، وأن تقوموا لدينكم بالولاء والبراء اللائقين بكبريائه، وبالاستيثاق فيما تقولون وما تنقلون، وأن تجاهدوا الطواغيت بما أقدَرَكم عليه الله.

لا يزال صاحبكم يُعَظِّم رجاء الربِّ أن يَحْسِرَ الأمرُ عن فرَجٍ لأسرانا؛ ذلك ملءُ محلِّ الطمع من النفس باطنًا، وتَرْدَادُ اللسانِ والبنانِ القولَ فيه ظاهرًا، لا ثقةً بشيءٍ؛ إلا رحمةً من الله وفضلًا كبيرًا.

قال قائلٌ: نقرأ لفلانٍ فيغلب رَغَبُنا رَهَبَنا، ثم نقرأ لفلانٍ فيهزم رَهَبُنا رَغَبَنا! قلت: لكليهما اقرأ ما كانا لعقلك أهلًا، واجتنب من حذَّرتك؛ أخا عَجَلٍ المُهَوِّلَ، وأخا دَجَلٍ المُمَخْرِقَ، وخير شأنك العمل.

أمسينا وأمسى الملك لله، كل

أمسينا وأمسى الملك لله، كل عرشٍ هالكٌ إلا ما استوى عليه الله.

إن الذين لا يفرِّقون بين النظر القدري والنظر الشرعي؛ قليلًا ما يَرشُدون.

كم من مرفوعٍ بالقدر مخفوضٍ بالشرع، يحبه المؤمنون لوجهٍ ويكرهونه من آخَر!

مسلمٌ دينُه في ربه: “إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي”؛ دَنْدَنَتُه في نفسه: (إن أملي يغلب يأسي).

من قال إنا نرجو من طاغوتٍ يذهب أو طاغوتٍ يأتي؛ رأفةً بالسادة الأسرى! لبئس الفهم البعيد.

أمَا والله لو وُكِلَ أمرُهم إلى أدنى الطواغيت شرًّا؛ لَأحرقهم لا يبالي؛ بما في قلوب البُغَضاء من عداوةٍ للإله الذي يعبدون، والرسول الذي يتْبَعون، والعقيدة التي يرتضون، والشريعة التي ينهَجون.

إنما الرجاء والطمع والرغبة والأمل والابتغاء والسؤال والدعاء والابتهال والضراعة والاستوهاب والاستمناح والاستفتاح والاستعطاء والاسترزاق والاسترئاف والاسترحام والاستنقاذ والاستنصار والتوسل والاستغاثة؛ إلى ربٍّ رؤوفٍ رحيمٍ سميعٍ عليمٍ عفوٍّ حليمٍ عزيزٍ حكيمٍ كبيرٍ كريمٍ مليكٍ عظيمٍ حيٍّ قيومٍ، لا نعرف غيره ربًّا ولا نبغي إلهًا سواه؛ أن يجبر كسور أسرانا التي لا محيط بأنواعها وآثارها إلا هو فيُنْجِي منهم من يشاء قادرًا مقتدرًا قديرًا؛ بل ما على حميدٍ مجيدٍ بعزيزٍ ولا بعيدٍ -وقد أَمَرنا إذا سألناه الجنة أن نسأله الفردوس الأعلى منها- أن يأتينا بهم جميعًا؛ لا يُعجز ربَّنا شيءٌ في الأرض ولا في السماء، الحَوْلُ حَوْلُه والقوة قوته، لا إله إلا هو الأحد الصمد الشهيد الحسيب.

بلى إن الطواغيت لا يرحمون المسلمين بنفوسهم الفرعونية النمرودية الإبليسية؛ لكن الله إذا فتح رحمةً لأسرانا قهر الطواغيت عليها فلا مُمْسك لها، قال المفسرون -رحمهم الله- في قول الحق -جلَّ ثناؤه- على لسان سيد السجناء يوسف عليه السلام: “إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ”؛ قالوا: “إذا أراد الله شيئًا هيأ له أسبابه”؛ هنالك يُيَسَّرُ العسير، ويُقَرَّبُ البعيد، ويُفْتَحُ المغلَّق، ويُجْمَعُ المفرَّق، ويكون ما لا يكون.

التمكين درجتان؛ درجةٌ دنيا ودرجةٌ قُصْوى؛ تمكين مِنَّةٍ وإزاحةٍ واختبارٍ هو الذي في الأعراف والقصص، وتمكين غلبةٍ وإحلالٍ واقتدارٍ هو الذي في الحج والنور، الأول يكون من الله مَنًّا على عباده المستضعفين -كلَّ انسدادٍ تامٍّ في شرايين الحياة- يبتليهم بسعته بعد ضيقهم لينظر كيف يعملون، والثاني جعل الله له جملتين من الأسباب عرَّفها أُولي العلم والنُّهى؛ جملة أسبابٍ كَسْبيةٍ بشريةٍ، وجملة أسبابٍ وَهْبيةٍ ربانيةٍ، وقد يستوفي المؤمنون الجملة الأولى بتوفيق الله ثم لا تصيبهم الثانية بحكمة الله فلا يُمكَّن لهم، وقد يستوفونها -أو يقاربون- فتصيبهم برحمة الله فيُمكَّن لهم، ولا يكون التمكين الأعلى حتى يكون الأدنى، وبين الدنيا وبين القُصْوى ما شاء الله من درجاتٍ في أزمانٍ على أحوالٍ بأسبابٍ شَتَّى.

قرأت اليومَ رسالةً خَطَّتها يمينُ أسيرٍ ترتعش، لولا أن أضره من حيث أردت نفعه لنشرتها، رسالةٌ تقطر بؤسًا؛ يقول المسكين: “احنا بقى عندنا أمل نخرج”؛ على الله غوثُك وأمثالك يا أخا ديني.

واغوثاه رباه؛ لا نسألك غدًا -بعد الذي سألناك بالأمس- إلا ما نسألك اليوم؛ أخرج أسرانا أجمعين.

اللهم من أبرم لعبادك المستضعفين المكائد، وحاك لهم الشدائد؛ فاحْبُكْ سلاسله، ودمِّر مفاصله، وأَصِبْ مقاتله، وأذقه ضِعْفَ الحياة بأسًا بأيدينا وتنكيلًا، وضِعْفَ الممات عذابَ جهنم وعذابَ الحريق.

رباه الولي الودود؛ إن بسطتَ بعافيةٍ فبرحمتك ولك الحمد، وإن قبضتَ ببلاءٍ فبحكمتك ولك الحمد.

أقسموا بالله -كفارًا به- جَهَدَ

أقسموا بالله -كفارًا به- جَهَدَ أيمانهم ليُكَفِّروننا بالثورة وعملوا لذلك أعمالًا، وأقسمنا بالله -مخلصين له الدين- سنظل بها موقنين وإن قصُرت بنا أعمالنا، الثورة فعلٌ من أفعال الله الكلية الجامعة في الأرض، الثورة ظهورٌ بيِّنٌ لصفات جلال الله وجماله وتجلٍّ حقٌّ لسنةٍ من سننه في الخلق، الثورة غايةٌ لما قبلها ووسيلةٌ إلى ما بعدها، الثورة بدايةٌ، الثورة قدرٌ إذا أراده الله هيأ له أسبابه طوبى لمن جعله الله فيها سببًا، الثورة بوابة الجهاد، الثورة إلهاب الوعي الجامد وبعث الفعل الخامد، الثورة كابوس الطغاة، الثورة شهادة البشر على بقاء حياتهم وصحة عقولهم واستقامة نفوسهم وأنهم لم يُخسف بهم كما يشاء الطواغيت، الثورة عقيدة الأحرار الصحيحة وإن حرَّف الساقطون، الثورة شِرْعَة الإسلام الصريحة وإن خرَّف المبدلون، الثورة عبادةٌ إذا قصد بها رجالها وجه الله وقَفَوا في خطواتها آثار الرسول، الثورة حقيقةٌ من حقائق الدَّفع في الأرض وصورةٌ من صور الحكمة في الناس، الثورة محاولة اقترابٍ بشريةٍ كماليةٍ من هيئة الكون الربانية الجمالية، الثورة أمانةٌ؛ خاب الخائفون وتعس المعوِّقون وقُتل الخائنون.

الدياثة الجلية ألا يغار الرجل

الدياثة الجلية ألا يغار الرجل على أهل بيته، والدياثة الخفية ألا يغار الرجل على نفسه.

شابٌّ لا يتعاطى المخدرات؛ لكنه يجالس متعاطيها، أو يعينه بمالٍ وهو يظن ظنًّا أنه يتعاطى به، ولولا سقوط حرمته في نفس المتعاطي ما تعاطى بين يديه، ولا سوَّلت له نفسه التسوُّل من ماله لأجلها.

فتًى لا يدخِّن أو لعلَّه؛ يعمل في مقهًى، يناول فيه الرجال والنساء -مختلطين أو غير مختلطين- الدخان وما حرَّم الله، لا يرونه -إذ يطوف عليهم فيها بما يشتهون- سوى آلة مناولةٍ جامدةٍ لا يعبؤون بها.

عاملٌ عند ذي جاهٍ ظلومٍ غشومٍ؛ يسارع في هواه سعيَ البغايا عند ساداتهن، يجود له بقهر الناس تبرعًا ابتغاءَ رضوانه، يقول -كلما عُوتب- أخزى كلمةٍ قالها صاغرٌ: “أنا عبدُهُ المأمور”، وصدق الدَّنيء.

تلك الدياثة الخفية؛ لا تزال بأهلها حتى تُهَوِّن عليهم أختَها الجلية؛ ألا من عاقبه الدَّيَّان بشيءٍ منها؛ فلينزع هرولةً عنها، وليَصُن نفسًا بين جَنبيه أعلاها الله بالتوحيد وأغلاها؛ واغوثاه رباه من مباديها!

لا حبَّ من أول نظرةٍ.

لا حبَّ من أول نظرةٍ.

الحب تراكُمُ إراداتٍ وأقوالٍ وأفعالٍ.

الحب آثار الظواهر في البواطن، والبواطن في الظواهر.

الحب خارجَ الزواج من الرجل أو المرأة؛ لا يكون إلا بتفريطٍ واستهبالٍ.

إلباسُ العاشق ثوب “فقد الاختيار” تخديرٌ لتقواه؛ إذا نُفِخَ في الصور طار عنه فتعرَّى.

قول القائل: “لا سلطان لأحدٍ على قلبه” -بغير تقييدٍ- دجلٌ وفسادٌ عريضٌ؛ كيف وحسابُ الله عبادَه في الدنيا والآخرة على ما في قلوبهم! فأما قبلُ فليحفظ العبد قلبه من عوادي الشهوات والشبهات بالاحتراز والاتِّقاء كما أمره الله تطييبًا، وأما بعدُ فليستعن العبد ربَّه السُّبُّوحَ القدُّوسَ على تطهير قلبه كما ألزمه مداواةً وتطبيبًا، وما عجز عنه بينهما فغير مُؤاخَذٍ به؛ رحمة الله واسعةٌ، وهو اللطيف الخبير.

ذاتُ زوجٍ تسأل شيخًا! عن محبة قلبها رجلًا أجنبيًّا عنها حتى الرغبة في نكاحه؛ يجب أن تُسأل أسئلةً تتولى هي جوابها بالمرصاد، وأن يُقال لها في تقوى الله ربِّها ويُعاد، وأن يُبسط لها النصحُ في صيانة بيتها ويُزاد؛ لا أن ينعطف المجيب عليها برقَّةٍ باردةٍ ولطافةٍ شنيعةٍ؛ كأنه صاحبةٌ لها تبثها صبابة فؤادها في مجلسٍ، أو أختٌ لها تشكو إليها لواعِج روحها في هاتفٍ! ثم يُثيبك أخو عصبيةٍ غبيةٍ للوغد غمًّا بغمٍّ فيقول: لله حكمة هذا الجواب! تالله لشقاء المرأة بمن سألت أعظم من بلائها فيما سألت.

ليس هذا آخر الزمان؛ هذا شيءٌ بعدَ آخره، لا تزيدك الليالي والأيام من سلف أئمة الإسلام إلا عجبًا! كيف كان اصطبار هؤلاء على مُشَوَّهات الفِطَر! أم كيف حِلْمُ الأنبياء على الذي أدهى وأمرُّ!

رحم الله قلب إمامٍ وَفَرَ وجعُه من غرائب النفوس حتى قال: “من المعضلات شرحُ الواضحات”، ولله شعورُ إمامٍ بغربة عقله بين العقول حتى قال: “هَدْمُ المهدوم تعبٌ، وتحصيلٌ للحاصل يورِث النَّصَب”، وويلَ إمامٍ ضجَّ بما صار الناس إليه بعدما كانوا عليه حتى قال: “فكيفَ يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ ** إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ”! ذاك عناءٌ شديدٌ -لمن جرَّب- لا تصلح له إلا نفوس هؤلاء الكبار.

ثُمَّتَ كلمةٌ أخرى؛ ما بقي (أحمد سالم، ومحمدٌ الأزهري الحنبلي، وأبو قيسٍ محمد رشيد)؛ يُعرِّفون أنفسهم -أيقاظًا وهم رقودٌ- بأنهم ليسوا سلفيين، وما بقيت عقدة سلفيتهم القديمة تطاردهم في وعيهم ولا وعيهم؛ فستجتاح منهم كل خيرٍ، وسيتخبطون في هروبهم منها كلٌّ في سبُّوبته التي اختار.

هنالك لا تسل عن “سالمٍ” كلما أحدث أُحدوثةً يقول بها لنفسه -قبل الناس- “أنا مش سلفي متخلف، أنا عصراني ومتمدِّن”، لم أجمع “فتاوى العلماء الكبار في الإرهاب والتدمير” الذي لا أبرأ -اليومَ- إلا من لغته، ولم أؤلِّف “شذرات البلاتين في سير العلماء المعاصرين” قبل أن أرميهم بنقائص العالمين.

ولا عن “الحنبلي” الذي لو نطق البث المباشر لقال له: ألعن عنك السلفية؛ وتكُفُّ بثَّك عني!

ولا عن “أبي قيسٍ” الذي لو سمعه كافرٌ من الجاهلية التي يتعشَّق شعرَها -وهو يثني على جيش الطاغوت خيرًا؛ إذ يلعن السلفيين لعنًا كبيرًا- لبصق في وجهه يقول: ضع لسانك عنا يا وضيع.

ذاتَ زيارةٍ لجدتها العجوز في

ذاتَ زيارةٍ لجدتها العجوز في بيتها العجوز التي تسكنه وحدها ويسكنها وحده؛ فزعت الحفيدة من فأرٍ سخيفٍ قفز بين قدميها؛ على الفور قالت الجدة: “ده الكائن الحي الوحيد اللي ليه حِسْ هنا”.

قوة فزع الحفيدة من الفأر + شدة عجبها من منطق الجدة × عُمُرها بالثواني = شعور الجدة بالوحشة كلَّ ساعةٍ ÷ إياس الجدة من إيناس الناس – عدد قفزات الفأر المؤنسة؛ “وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا”.

سيقول الذين لم تذق أفئدتُهم مراراتِ وحشة الجدة -إذا سمعوا كلمتها-: “تيته مأفورة”، فأما الذين لسعتْ أرواحَهم سياطُها فيعلمون أن حروف لسانها لا تترجم ما يُحسُّ حلقُها من غُصَصِها شيئًا.

في غرفةٍ آويت إليها مطاردًا؛ كان النمل يجتمع على بقايا الخبز وما إليه، لا أذكر أن قلبي قوي مرةً على قتله ولا خَطَرَ عليه؛ بل وجدتني -على الليالي- أوفِّر له الطعام، وقد أجمع النمل من زوايا الغرفة بمنديلٍ فأجعله في مكان الطعام، وقد أضع له بعض السكر وأرقب ما أكل منه وما أبقى .

لم يكن صنيعي إلى النمل بأكرمَ من صنيعه إلي؛ إنني لا أزيد على تغذية جسمه الضئيل شيئًا، وهو إن لم أُطعمه أنا أطعمه الله -الذي لا يُضيِّع خلقه- بسببٍ غيري؛ لكنه كان يعمل عملًا جليلًا، كان يؤنس قلبًا -علم الله ما فاقته إلى الأنس- بأحاديثه وحركته؛ فأيُّنا أحق بالحمد إن كنتم مقسطين!

“راحة الجسم في قلة الطعام،

“راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة الروح في قلة الآثام، وراحة اللسان في قلة الكلام”.

صار عزو الهم والغم والحزن والكآبة إلى ضعف العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وسننه وأحكامه، وضعف عبادة الله وذكره والاستقامة، وكثرة الذنوب والآثام؛ صار ذلك التفسير العظيم “دَقَّة قديمة”.

تكلمت كثيرًا عن “الاكتئابات المخية” التي جعل الله جانبًا رئيسًا من دوائها في أسباب الطب النفسي (من غير العلمانيين)، انظر أول تعليقين؛ لكن عزل الأمراض القلبية عن طبها النبوي جنايةٌ على القلوب وأهلها في الدنيا والآخرة، وتأمل كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله- هذا؛ فإنه غايةٌ في التأسيس:

“فإن صلاح القلوب أن تكون عارفةً بربها وفاطرها، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأن تكون مؤْثرةً لمرضاته ومحابِّه، متجنِّبةً لمناهيه ومساخطه، ولا صحة لها ولا حياة ألبتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقِّيه إلا من جهة الرسل، وما يُظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم؛ فغلطٌ ممن يظن ذلك، وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها، وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزلٍ”.

هوامش على منشور الدعاء لمشاهير

هوامش على منشور الدعاء لمشاهير الأسرى؛ سمع الله فيهم واستجاب.

– في ذكر المشاهير على اختلاف مشاربهم؛ حسنةٌ للرسالة وأهلها لا تخفى.

– لم أُرد الاستقصاء، ولا يُستطاع، وقلت بعد ذكرهم: وآخرون لا يحصيهم العَدُّ.

– كم من عبدٍ مغمورٍ خيرٌ من ألف مشهورٍ! وسبحان من لا يعلم أقدار عباده إلا هو!

– أنساني الشيطان ذكر جمهرةٍ عزيزةٍ من الأسرى؛ أحمد عرفة، وأحمد الأسير، والحازمي، وسفر الحوالي، وصفوت حجازي، وعلي العمري، وخالد الغريب، وخالد الرفاعي، ومحمود شعبان، وعلي الخضير، ومحمد القحطاني، وكُثُرٌ سواهم لا نعلمهم؛ الله يعلمهم، حَسْبُ الجميعِ اللهُ ونعم الوكيل.

– أخبر أحد البررة المعلِّقين أن الشيخ الكريم عبد الله السعد -حفظه الله- ليس بأسيرٍ؛ فلربِّنا الحمد.

– لست غافلًا عن جنايات بعض الأسرى؛ الشيخ سلمان العودة -غفر الله له- الذي رأى بعين النظام السعودي أربعين مسلمًا أُعدموا “إرهابيين”! وكتب -وقتئذٍ- كلامًا يسخط الله ورسوله، يشكر قاتليهم الفجرة، ومواقف له قبل هذا وبعده لا تليق به عبدًا يحب الله ورسوله وشيخًا يحمل للإسلام وأهله همًّا شريفًا، ولا كنت ذاهلًا عن الأخ إبراهيم السكران -عفا الله عنه- الذي مجَّد النظام السعودي تفصيلًا، وأثني على سلمان الطاغية ثناءً قبيحًا، وعلى نايف المجرم وزير الداخلية، وعلى جيش السعودية وشرطتها، والأخ من هو نفعًا للمسلمين بارك الله بخيره؛ فلم تغن عن الرجلين أقوالهما -يوم سخط الطاغوت عليهما- شيئًا، وإني لأرجو الله لهما -بهذا البلاء المبين- في الجاهلية بصائرَ لا تزول.

– كذلك لا أجهل أحوال من ذكرت من الديموقراطيين الذين غرقوا في جُمَلٍ من الجهل والضلال، وإني لأرجو الله أن يجعل سَجنهم بأيدي الطواغيت نورًا لهم في عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم، وأن يتجاوز عن سيئاتهم، وأن يزيد في حسناتهم، وأن ينجِّيهم ويسلِّمهم، ويهديهم ويثبتهم؛ إنه على كل شيءٍ قديرٌ.

– يا عبد الله؛ السجين -على كل حالٍ- أخوك، والسجان -على كل حالٍ- عدوك؛ “وَوَضَعَ الْمِيزَانَ”.