سمعت “كورونا” يقول: يا أيها

سمعت “كورونا” يقول:

يا أيها الناس؛ أنا من صغُر في نفسه منذ صوَّرني ربي؛ لكني اليوم لا أكبرَ مني في نفوسكم مؤثرًا وأكثرَ آثارًا؛ إلا الذين ملأتْ قلوبَهم كبرياءُ الإله الأكبر؛ أولئك يشهدونني كما أنا لا أفعل ما أشاء.

يا أيها الناس؛ أنا من يأتي من أراد الله بلا احتسابٍ، ولا يمنعني عن ذي سلطانٍ بابٌ ولا حُجَّابٌ، وقد جمع الله العالم كله على أمري قدَرًا؛ بعد إذ لم يجتمعوا على مراده منهم شرعًا، وهو الواحد القهار.

يا أيها الناس؛ سواءٌ عليكم أَحْصيتم مَوْتاي في العالم كله -منذ أرسلني الله إلى يوم يحبسني- أم لم تُحصوهم؛ يبقى قتلُ الطواغيت مسلمًا واحدًا بغير حقٍّ إلا أن يقول: ربيَ الله؛ أعظمَ عند الله والرسول.

يا أيها الناس؛ إن أولياء الطغاة من المثقفين والسياسيين الذين يُظهرون الرأفة لكم والرحمة بكم أن تُصابوا بي؛ إنما يخشون على أنفسهم عَدْوَاي، ولو عرفوا للإنسانية عنوانًا؛ ما كانوا للشياطين أعوانًا.

يا أيها الناس؛ لقد كنت وأصحابي ننظر إليكم في عالم الشهادة من عالم الغيب الذي أودَعَنا الله فيه، فنظن -بما تحدِّثون عن علمكم وقوتكم- أنكم لا تُقهرون؛ حتى بدا لي جهلكم وضعفكم فأشفقت عليكم.

يا أيها الناس؛ أيُّ كفارٍ كفارُكم! وأيُّ عُصاةٍ عُصاتُكم! لقد كان ربي يسلِّط بعض إخوتي الذين هم أضعف مني على المشركين فيوحِّدونه وإنْ بأفواههم، وعلى العُصاة فيُنيبون ولو بألسنتهم؛ فمن أنتم!

يا أيها الناس؛ أنا لست أول جنود الله الخفية ولا آخرها، ولقد تركت ورائي ما لا قِبَل لعقولكم باحتمال أخباره لا آثاره، وإني زائلٌ عنكم متى فرَغْت من غايتي فيكم؛ فاصبروا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون.

يا أيها الناس؛ انظروا إلى طواغيتكم كيف لم يزدادوا بي إلا بغيًا عليكم، ولولا أن سهامي لا تفرِّق بين رئيسٍ ومرؤوسٍ؛ ما خطر لهم فَناؤكم أجمعين على بالٍ، وما يُنقِذون بقرارٍ إلا أنفسَهم لو تشعرون.

يا أيها الناس؛ إذا أشبهَتْ قلوبُكم في بلائي قلوبَ من لا يؤمن بأسماء الله وصفاته فجزِعتم، وأشبهَتْ أعمالُكم أعمالَ الذين لا يوقنون باليوم الآخر فلم تبالوا؛ فما انتفاعُكم بما عندكم من التوحيد والقرآن!

يا أيها الناس؛ أوَلمَّا أصابتكم مصيبتي قلتم: أنَّى هذا! فإن ما يصعد إلى السماء من أنواع خطاياكم؛ أعظم مما ينزل إلى الأرض من صُنوف بلاياكم، فاشغلوا أنفسكم بما عليكم فيَّ، ودَعُوا ما كفاكم الله.

يا أيها الناس؛ أين كل ما صارت إليه الحضارة البشرية علمًا وعملًا؛ من أُلوفٍ مؤلَّفةٍ أُزهق كل يومٍ أرواحَها! كيف سَدَنَة النظام العالمي الجبارون مني ضئيلًا لا تراني العيون! لمَن المُلك اليوم هنا!

يا أيها الناس؛ إذا لم يؤمن بي كافرُكم، ويؤوب بي شاردُكم؛ فإن عند ربي جنودًا أشد مني قوةً وأكثر عددًا، ما بينها وبين إرسالها في الأرض -بأسًا على الكافرين، ورحمةً بالمؤمنين- إلا إذنٌ عُلْويٌّ حكيمٌ.

يا أيها الناس؛ خذوا حِذركم مني غيرَ مفرِّطين؛ لكن اعلموا أنه لا يغني حَذرٌ من قدَرٍ، إذا حلَّت المقادير ضلَّت التدابير؛ فآمنوا بقدَر الله الذي خلقني وما أعمل، لن أصيبكم إلا بما كتب الله لكم، وأبشروا.

يا أيها الناس؛ اتَّقوني بأسبابٍ ربانيةٍ وأسبابٍ بشريةٍ؛ فأما الربانية فقلبيةٌ هي تجريد التوحيد لربكم، وعمليةٌ هي التوبة والاستقامة، وأما البشرية فتَركيةٌ هي اجتناب كذا وكذا، وفعليةٌ هي عمل كذا وكذا.

يا أيها الناس؛ من هانت منكم عليه نفسُه فلم يعبأ بأسباب الوقاية مني؛ فليتق الله فيمن يُكرَمون عليه حوله؛ أن يضرهم تهاونُه -إذا شاء الله- فيَسْقَمُون بي فيتعَس، ثم هو يوم القيامة من المسؤولين.

يا أيها الناس؛ ليس العجب ما كَشَف قدَري من أنكم أصواتٌ بلا صُوَرٍ، وصُوَرٌ بلا حقائق؛ لكنَّ العجب العُجاب ألا تتبَّعوا عيوبًا هُتِكت فيما بينكم بالمعالجة، وذنوبًا فُضِحت بينكم وبين ربكم بالمَتاب!

يا أيها الناس؛ لا أشقى اليوم من ملحدٍ يصر على كفره بالغيب -بعدما سُلِّطتُ عليه منه- وأنا المؤمن بالله، ولا أسعدَ من مؤمنٍ امتحن الله بي قلبه؛ فاستخرج منه تفويضًا وتوكُّلًا وصبرًا ورضًا وتسليمًا.

يا أيها الناس؛ إني من أشياءَ في هذا الكون تُسبِّح كلها بحمد الله، ولقد عشت ساكنًا ما شاء الله فيه حتى حرَّكني ربي وهو العليم القدير، ولو أردت أن أرجع بنفسي ساكنًا لم أقدِر؛ فرُدُّوا إلى الله وحده أمري.

يا أيها الناس؛ لا تُغالوا في قدْري؛ من شاء الله منكم حياته حَيِيَ وإن أَصَبتُه، ومن شاء منكم موته مات وإن لم أُصِبْه، وإن عبدًا يُجدِّد لربه -كل ليلةٍ- إسلامه؛ لا يضره أن يصبح -بي أو بغيري- ميتًا.

يا أيها الناس؛ لقد أشهدني ربي عليكم أنكم تستطيعون؛ رأيت امرأةً تمدُّ يدها إلى رجلٍ بالمصافحة فعَجِل إليها بالاعتذار، وكان من قبلُ يصافح يقول: لا أستطيع، ورأيت من أشباه ذلك منكم ما أدهشني.

يا أيها الناس؛ اليوم سهُل عليكم اعتزال بعضكم بعضًا في كثيرٍ من المباحات، وقد بُحَّ صوت الإسلام أن تعتزلوا الذين يُسَهِّلون لكم الخطايا والمحرَّمات؛ أتخشونني كخشية الرحمن أو أشد خشيةً!

يا أيها الناس؛ إني داءٌ ولي دواءٌ كما مضت سنة الله في كل داءٍ سلف؛ لكنَّ بارئي لم يُظهر دوائي لأحدٍ من العالمين، ولو كنت مكانكم فأُصِبتُ بكم؛ لسألت الله باسمه “المبين” أن يُبَيِّن لي تِرْياقي منكم.

يا أيها الناس؛ تواصَوا بالصبر وتواصَوا بالمرحمة، واقتصدوا في الإنفاق لا تسرفوا ولا تَقْتُروا؛ إني لا أُدفع بالاستكثار من المآكل والمشارب، ولو كنت مدفوعًا بعلاجٍ في الأرض فبالتراحُم فيما بينكم.

يا أيها الناس؛ ما الكُحُولَّات وسائر المطهِّرات إلا أسبابٌ من أسباب الله، وإنما “القدُّوس” الله؛ المطهَّر في نفسه المطهِّر ما شاء من خلقه؛ فأَلِظُّوا باسم “القدُّوس”؛ فإنكم رابحون التسبيح وإن خسرتم.

يا أيها الناس؛ لقد جئتكم من كل مكانٍ، ولا عاصم اليوم مني إلا من رحم الله، وإنما يرحم الله من قصد رحمته بأسبابها، وأول أسبابها من العقيدة الإخلاص، ومن العبادة الصلاة، ومن المعاملة أداء الحقوق.

يا أيها الناس؛ إذا غرَّتكم العافية فلم تشهدوا افتقاركم إلى ربكم، ولم تصمُدوا إليه في حوائج دنياكم ودينكم؛ فهذا البلاء لا غاية له إلا إظهار عبوديتكم لربكم؛ “مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ”!

يا أيها الناس؛ سأذهب عنكم بقدَرٍ كما جئتكم على قدَرٍ؛ لكن لا يستوي من غلبه معناي على مادَّتي فشهد حكمة الله فيَّ وتعبد له في شأني بما يحب ويرضى، ومن غلبته مادَّتي على معناي فعَمِي وقعد.

يا أيها الناس؛ من الضَّار النافع؟ من المُعِز المُذِل؟ من المهيمن؟ من الكبير؟ من القدير؟ من المتين؟ من الديَّان؟ من الجبار؟ من الحسيب؟ من العظيم؟ من الحق؟ من المَلك؟ من الواحد؟ وحِّدوا الواحد.

عن لفظةٍ قلتها قالوا: آذتنا،

عن لفظةٍ قلتها قالوا: آذتنا، وقول عبد الله الشريف: “جيشنا”، وأسطورة العسكري الغلبان.

عاتبني مَن عتابُهم العتابُ في نفسي وحقُّهم الحقُّ فوق رأسي؛ في لفظةٍ ذميمةٍ كتبتها معلِّقًا على عبد الشيطان -لا الرحمنِ- الكافر الفاجر الذي قَتل ومَثَّل وحرَّق عبدًا من عباد الرحمن؛ تقبل الله المقتول الذي لم يضرَّه التمثيل والتحريق شيئًا في خير الشهداء، وأمكَن من قاتله وإخوانه عَبَدَة الطاغوت ولعنهم لعنًا كبيرًا، كما عاتبني بعض الأحبة الأماجد في سكوتي عن قول عبد الله الشريف: “جيشنا”.

أما هذه اللفظة فيعلم أهلي وإخواني أني أعجز عن النطق بها في الواقع، وما سمعها أحدٌ مني قطُّ ولا أقولها إن شاء الله؛ لكني قاصدًا عامدًا كتبتها -وقد أعيدها ونحوها- ليقرأها من يتابع الصفحة من الكفار الأصليين والمرتدين المحاربين اللهَ والرسولَ والإسلامَ والمسلمين، فتؤذيهم أذًى خاصًّا لا يؤذيهم مثلَه إلا مثلُها، وأنا أعلم أن عديدًا منهم يتابع صفحتي، وألقى من بعضهم في التعليقات والخاصِّ ما ألقى.

قال: أولم تقرأ قول الله في رسوله: “وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ”! قلت: أولم تقرأ ما بعدها: “وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ”! فهذه والله عظَمة خُلق الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا عظَمة فوقها؛ أن يُغلِظ القول لمن حقُّه إغلاظ القول له، جامعًا عليه نُعوتَ السوء هذه جميعًا، فأما من وضع الرفق في غير موضعه؛ فليس من العظَمة في شيءٍ.

يا أحبَّتاه؛ إنما النَّكير على الفحَّاشين المسرفين في السِّباب (بنوعٍ أو كَيفٍ أو كَمٍّ)؛ حتى باتوا به معروفين وأصبحوا به موصوفين، فأما بعض الشتم على بعض الأحوال موضوعًا موضعَه فلا إنكار فيه إن شاء الله، لنا في نحوه سلفٌ من أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- الذين أُمِنَت بوائقُهم ومَثُلَت خلائقُهم، وتفصيل هذه المسألة من وحي الله وسنة الرسول وفقه الأئمة المتبوعين بهما معلومٌ لأهله.

وأما قول عبد الله الشريف -وفقه الله، ووفق به-: “جيشنا” ونحوها؛ فلا أستغربه وإن كنت أنكره؛ فإن أخي -غفر الله لي وله- على ما ينفع الله به فئامًا عظيمًا من عامة المسلمين؛ متأخونٌ لا يُشكُّ في هذا، والتأخون فيروسٌ لا يصيب عبدًا إلا أزْرَى به في قليلٍ أو كثيرٍ، وقديمًا قلت: لا يُسلِم ذو عقلٍ عقلَه إلى “الإخوان”؛ إلا فقد من رُشده بقدْر ما أسلم لهم منه؛ براءةٌ إلى الله والرسول من “الجيش” جميعًا.

إن الذين يتصورون “الجيش” رأسًا على غير جسدٍ؛ قومٌ مخابيل نترفَّع عن مجادلتهم، وهم بذلك أَولى أُولي الجهل بمذهب أبي جهلٍ يوم أشار على قريشٍ أن يقتل نبيَّ الله -صلى الله عليه وسلم- رجالٌ من قبائل شتى، يضربونه بأسيافهم ضربة رجلٍ واحدٍ، فيتفرَّق دمه بين القبائل؛ وتلك أسطورة العسكري الغلبان، أما أُولو العلم والنُّهى فيقولون: لا فرعون إلى يوم القيامة بغير أوتادٍ، وأول الأوتاد الجنود.

“فَتَعَاطَى فَعَقَرَ”؛ تخبرك هذه الآية أن عاقر ناقة صالحٍ رجلٌ واحدٌ، “فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا”؛ تخبرك هذه الآية أن عاقر الناقة قومُ صالحٍ أجمعون؛ ألا إن الذي عقرها رجلٌ واحدٌ؛ لكنَّ هؤلاء لما رضوا عقرَه وكانوا له شركاء؛ جعلهم الله لها عاقرين، وحاسبهم حساب العاقر بيده بلا فرقٍ؛ وذلك المعقول وحدَه، ولو جاء الإسلام بغيره -حاشَ لله- لكنا به كافرين؛ كيف بمن كان يدَ العاقر التي لا يفعل إلا بها!

“ما من نبيٍّ بعثه الله في أمةٍ قبلي؛ إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحابٌ، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلُف من بعدهم خُلوفٌ؛ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمنٌ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردلٍ”؛ لم يُبق تركُ جهاد هؤلاء في القلوب من الإيمان شيئًا؛ بالله ما يقال في جنودهم!

هل أنت من قُرَّاء “البقرة”! هل تصدِّق أخبارها وأحكامها! هل تنكر فيها من عدل الرحمن شيئًا! فانظر إلى ربك -سُبُّوحًا عن الظلم قُدُّوسًا- كيف حمَّل اليهود زمانَ محمدٍ عليه صلاته؛ كلَّ جرائم اليهود زمانَ موسى عليه سلامه! فقال لهم: “ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ”، “وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً”، “ثُمَّ تَوَلَّيْتُم”، “ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم”، وبين هؤلاء وأولئك قرونٌ؛ لكنها حمولة الإقرار والقبول.

“إذا عُملت الخطيئة في الأرض؛ كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها”، “لعن رسول الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهدَيه، وقال: هم سواءٌ”، “لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها”؛ كيف بمن أعان على أنواع الطغيان والإفساد في الأرض، وأعطى الطاغوت ثمرة فؤاده!

“وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا”، “فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ”، “قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ”، “إنه يُستعمَل عليكم أمراءُ فتَعرفون وتنكرون؛ فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكنْ من رضي وتابع”، “ليأتين عليكم أمراء يقرِّبون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم؛ فلا يكونن عَرِيفًا ولا شُرَطِيًّا ولا جابيًا ولا خازنًا”؛ قرآنكم وسنتكم.

“وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ”، “ينادي منادٍ يوم القيامة: أين الظلمة وأعوانهم؟ فما يبقى أحدٌ مدَّ لهم حِبرًا أو حَبَّر لهم دَواةً أو برى لهم قلمًا فما فوق ذلك؛ إلا حضر معهم، فيُجمَعون في تابوتٍ من نارٍ فيُلقَون في جهنم”؛ هذا الميزان الذي لا نرضى غيره حتى نلقى الله لائذين في الثبات برحمته.

“وَلَوْلَآ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا”؛ مجرَّد الكَيْدُودَة ومجرَّد المَيْل؛ إذا هما وقعا منك يا محمد؛ فلأعذبنك حيًّا وميتًا بأغلظ العذاب، حتى قال عندها الزمخشري رحمه الله: “على المؤمن إذا تلا هذه الآية؛ أن يجثو عندها ويتدبرها؛ فهي جديرةٌ بالتدبر، وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد (التصلُّب) في دين الله”.

في القرآن كله؛ يجعل الله جزاء العبيد والسادة واحدًا، ولا يعذر المستضعفين حتى يُقحِمهم في جهنم بمُواطأة المستكبرين على جناياتهم، وتلك والله الحقِّ أحكامٌ حِسِّيةٌ عقليةٌ قبل أن تكون أحكامًا عقديةً شرعيةً؛ بل هي قوانين الكفرة الوضعية أنفسهم؛ فإنهم كانوا ولا يزالون يأخذون مُشاركي المجرمين -بمقاييسهم الوَسِخة- بأدْوَنِ المشاركة؛ أفإن عاملناهم ببعض ما يعاملوننا به كنا نحن المتطرفين!

إلى البقية الباقية في الأرض ممن لم تمسخ الجاهلية فِطَرَهم؛ أعتذر من سَوْق الأدلة على اليقينيات وحَشْد البراهين في القطعيات، أجل؛ فإن من المعضلات شرح الواضحات، وكيفَ يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ ** إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ، وكما قال الطُّوفي -رحمه الله- ذاتَ وجعٍ: “هَدْم المهدوم تعبٌ، وتحصيلٌ للحاصل يورث النَّصَب؛ فإن الأمر على ما قال القائل السابق: فأيُّ طلاقٍ للنساءِ الطوالقِ”.

ذلك وإني أُحب لأخي عبد الله أن يعتذر عن حلقة هشامٍ -تقبله الله- بعدما بيَّن له نفرٌ ممَّن هم أخصُّ منه به وأثبتُ منه فيه ما بيَّنوا؛ فإن الخلل بها في مستوى المعلومات قبل مستوى التحليل وذلك أشد شناعةً، ورجوعه -وإيانا، وكلِّ ذي خطأٍ عن خطئه- فريضةٌ لا فضيلةٌ، وهو المُنْبَغِي للمنتسبين إلى الإسلام والدعوة إليه والحِسْبَة فيه، فأما مستوى التحليل فراجعٌ -كما تقدَّم- إلى تصوره وفكره وفيه ما فيه.

اللهم انفع بعبدك عبد الله الشريف، واحفظه من كل فتنةٍ وسوءٍ فيمن حفظت من عبادك الصالحين، وأعذه وكلَّ عاملٍ لدينك وأوليائك من كل متكبرٍ لا يؤمن بيوم الحساب، وثبِّت قلبه أن يضلَّ وقدمه أن تزلَّ حتى يلقاك في المؤمنين الآمنين، وإيانا -يا ذا الجلال والإكرام- والمسلمين أجمعين؛ علم ربي ما في قلبي من ابتغاء التوفيق والمغفرة والهدى والعافية والثبات له ولكل محبٍّ لله، وخاب الشانئون.

عن ميقات فيروس “كورونا”، وسبحان

عن ميقات فيروس “كورونا”، وسبحان الله المقيت وتعالى!

لئن نسيت ثورة يناير كلَّها -ضيَّع الله من ضيَّعها- فلن أنسى كلمةً قالها لي الشيخ رفاعي سرور -رفعه الله درجاتٍ، وسرَّه يوم الحسرات- في أول زيارةٍ له بعد مدةٍ قريبةٍ منها؛ قال: “أنا كنت متأكد يا أخ حمزة ان فيه شيء هيحصل؛ أنا شفت فقير بيطلَّع فرخة ميتة من صندوق زبالة وعمَّال يحرَّكها كإنه عايزها تصحى!”؛ إن الله لا يعجَل وإن عجِل خلقُه أجمعون، وإن لكل شيءٍ عنده أجلًا مسمًّى.

جاء “كورونا” الأخرس في نفسه ناطقًا بكل لسانٍ لكل أمةٍ في الأرض كلها؛ يقول: “أنا أحد جنود ربٍّ لا يعلم جنودَه إلا هو، ذلكم الحق؛ على كل شيءٍ قادرٌ قديرٌ مقتدرٌ؛ قادرٌ في نفسه قديرٌ على ما كان مقتدرٌ على ما كان وما لم يكن، على كل شيءٍ مهيمنٌ؛ إحاطةً به وإخضاعًا له، فوق كل شيءٍ قاهرٌ قهارٌ؛ يغلب كل مخلوقٍ بسلطانه العُلويِّ الأكبر على ما أراد منه طوعًا أو كرهًا؛ فأنَّى ترتابون!”.

لقد أوشكت عقائد أكثر المسلمين -بشديد جهلهم بربهم؛ صفاتِه وسُننِه وشرعِه- أن تتزلزل بين يدَي جبروت الأنظمة المتسلطة عليهم؛ وزاغت قلوبٌ وضلَّت عقولٌ؛ حتى كاد يقول كثيرٌ منهم: ما شاء الطواغيت كان وما لم يشاؤوا لم يكن؛ بعدما بدا في عيونهم كلُّ شيءٍ في كل جهةٍ مغلقًا لا فاتح له من الأسباب البشرية والمادية الظاهرة، وبينما هم كذلك إذ تصدَّق اللطيف الخبير عليهم بفيروس.

“كورونا” صدقةٌ من الله على المسلمين وهو المُهدِّد حَيَواتِهم بالموت يحصد منهم كلَّ ساعةٍ عديدًا! أجل وربِّ الخلق جميعًا ما تبصرون وما لا تبصرون؛ إن غاية ما يفعل “كورونا” في الناس -غيرَ مجاوزٍ قدَرَ الله مثقالَ ذرةٍ- إماتة أجسادهم، وما أخَّر الله لن يقدِّمه “كورونا” ولا أحدٌ من العالمين، ومن لم يمت به مات بغيره، وأسباب الموت الجَوَّانية والبَرَّانية -في الأرض- لا تُحصَى ولا تُستقصَى.

“كورونا” صدقةٌ من الله على المسلمين إذ يحفظ توحيدَهم الذي خُلقوا لأجله؛ فاليوم يوقنون أن الله هو الملك المليك الحق، وأن الذين ينازعونه الربوبية والألوهية -من طواغيت العرب والعجم- لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، وأن صورهم -مهما تضخَّمت بآلاتهم العظيمة- لا حقائق لها، وأن الذي فوق كل ذي فوقيةٍ في العالمين واحدٌ لا شريك له؛ “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ”.

“كورونا” صدقةٌ علينا إذ يُنِيبنا إلى الله الذي كان حقُّه الإنابة منا طوعًا واختيارًا؛ فهذا جاهلٌ بالله عزم على معرفته بما ينبغي له سبحانه، وهذه مفرِّطةٌ في طاعة ربها أزْمَعت على الجد لن تلوي صاعدةً على شيءٍ، وهؤلاء غارقون في الخطايا يحذرون بأس الله أن يأتيهم بياتًا وهم نائمون أو ضُحًى وهم يلعبون، وأولئك مغرورون بالحياة الدنيا يبصرون زيفَها فتتجلَّى له الآخرة بقدْر ما أفسحوا لها.

رأيت فتاةً منتسبةً إلى الإسلام تمشي متبرجةً تبرجًا يُخجل الجاهلية الأولى؛ لكنها تغطي أنفها وفمها بكمامةٍ تتقي “كورونا”، قلت في نفسي: لو عرفت هذه عن الله ما عرفت عن “كورونا” لكانت أشدَّ له تقوى، وكذلك قُل في خشية عامة العامة من الطواغيت ما لا يخشون الله، لما كان علمهم بصفات الطواغيت وأفعالهم أوسع من علمهم بصفات ربهم وأفعاله؛ جعلوا للطواغيت ما لم يجعلوا لله.

ربَّاه ما “كورونا” إلا جنديٌّ من جنودك؛ أنت خالقه وبارئه ومصوِّره، لا يفعل شيئًا من تلقاء نفسه بل بمشيئتك، بيدك تسكينه وتحريكه غالبًا على أمرك، لن يصيبنا منه شيءٌ إلا ما كتبت لنا؛ اللهم فاجعله على عدوك وعدونا نقمةً وبأسًا، ولنا من دونهم رحمةً ولطفًا؛ أنت العزيز الرحيم، اللهم إن لك في كل قدَرٍ فينا عقيدةً وعبادةً، وإنا بما تحب -في هذا القضاء- عقيدةً وعبادةً إلى وجهك متوجِّهون.

الحمد لله على “كورونا”، ونعوذ به من شره؛ لا إله إلا الله.

ألوفٌ من المسلمين في العالم

ألوفٌ من المسلمين في العالم يُنيبون إلى الله بعد “كورونا”، ومئاتٌ من المسلمين في مصر يشهدون الجمعة بعد متواتر المطر وقاصِف الرياح؛ كطُلَّاب يُصلُّون في مواسم الامتحانات؛ هل ذلك خيرٌ!

يا حبيبي؛ إن مرضًا يَضطرُّك إلى ربك شفاءٌ، وإن سجنًا يُحوجُك إلى إلهك حريةٌ، وإن اكتئابًا يُرغمُك لمولاك سعادةٌ، وإن فقرًا يُلجئُك إلى سيدك غِنًَى؛ بإيجازٍ شديدٍ أقول لك: كل بلاءٍ يُذلُّك لله عافيةٌ.

إنه -حينئذٍ- يُبصِّرك بالغاية التي ما أُوجدت بعد عَدَمك إلا لها؛ “عبادة الله”، والعبادة الذل الاختياري، كمال الذل مع كمال الحب، فمن لم يذل لله (بأمره) طوعًا واختيارًا؛ أذله (بقدَره) كَرْهًا واضطرارًا.

إن خلْقك -بعد أن لم تكن شيئًا مذكورًا- لم يكن أمرًا مقصودًا لنفسه كما يُجَهِّلُك “دين الإنسانية” الكذاب الأَشِر؛ لقد كانت حكمته اليتيمة -وستبقى- “عبادة الله”، إفراد الربِّ الذي تفرَّد بالخلق بالطاعة المُطلَقة في الباطن والظاهر، فإذا انقلب الأمر -بشدة جهلك بربك، وكثرة ظلمك لنفسك- فتوهَّمت حياتك مقصودةً لذاتها، وأنك في هذه الدنيا ليحصُل لك ما تريد لا ما يُراد منك “عبادة النفس”، فقدَّر لك البرُّ الرحيم شدةً تُقوِّم بَوْصَلَتك، وتُصحِّح بصرَك، وتُسدِّد خَطوك، وتُلَيِّن منك ما قسا، وتُطَوِّع منك ما عصى؛ لتأخذ بكل ما فيك -وما أوتيت في هذه الأرض- لمستحقٍّ واحدٍ في السماء؛ فلَعَمْرُ الله ما هي بشدةٍ؛ بل هي الرخاء نفسُه وعينُه وكلُّه وجميعُه، ولقد أحسن إليك أحسنُ المحسنين بأحسن الإحسان.

إن الذين لا يذلون لله في العافية مختارين، ثم إذا ابتلاهم ربهم ليُخضِعهم إليه لم يذلوا مضطرين؛ لا يبقى لهم ظرفُ زمانٍ ولا ظرفُ مكانٍ يذلون فيه إلا يوم القيامة؛ “خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ”؛ إن مراد الله منك كائنٌ لا محالة؛ فليكن مع الحب ذلك خيرٌ.

رسائل الأسحار في متواتر الأمطار.

رسائل الأسحار في متواتر الأمطار.

إلى مجاهدٍ وأسيرٍ نائمَين الآن حيث يرى الله.

وإذا العنايةُ لاحَظَتْكَ عيونُها ** نمْ فالمَخاوفُ كلهنَّ أمانُ

يا حبيبًا في ثَغره أو في زنزانته؛ جعل الله نومك بركةً على يقظتك.

نائمٌ أنت الساعة قليلَ الحِيلة في فراشك! فالحيُّ القيُّوم يدبر أمرك فوق عرشه.

“إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ”؛ أذاقكما الله من برْدها وسلامها أوفى حظٍّ وأوفرَ نصيبٍ.

إذا فقدتما في منامكما السكن والأهل والراحة؛ فأنتما واجدان من الله يوم تلقيانه كلَّ سُلْوَانٍ جميلٍ.

حين يفرَغ المؤمن من جواب الملكين في القبر ملهَمًا مثبَّتًا من الله؛ يقولان له: “نم”، فيقول لهما: أرجع فأخبر أهلي؟ فيقولان له: “نم كنَومَة العَروس الذي لا يوقظه إلا أحبُّ أهله إليه”؛ يا له من حديثٍ!

ليس نوم المؤمن في قبره كنوم أهل الدنيا؛ لكن شُبِّه به في طِيب النفْس وراحة البال؛ كأني بالمجاهد والأسير أَولى من قيل له في القبور: “نم كنَومَة العَروس”، ومن أولى بها منهما عند الله! وهل جزاء اضطراب أفئدتهم في حياتهم الدنيا طويلًا؛ إلا سكينتها في البرازخ ويوم تكون أفئدة الظالمين هواءً!

يا مجاهدينا وأُسارانا؛ حسبُكم من الليل لذَّةً ما أرَّقتم به مضاجعَ الطغاة، ولقد نمتم وتنامون وستنامون، “وِقِلّ نُومنا في المضاجعْ ** آدِي احْنا نِمنا ما اشتهينا”؛ أفرَغ الله عليكم صبرًا، وأنامكم وادِعِين.

“وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا”؛ السُّبات الراحة، والذي يجعله في النوم هو الله، فإذا ذهب السُّبات فقد بقي الله.

هل أسامح من ظلمني؟ أم

هل أسامح من ظلمني؟ أم أدعو عليه؟ ما أصلحُ للبال والحال والمآل جميعًا؟

سامح المسلمين (الذين لا يوالون الطواغيت وهم على صلاتهم يحافظون) جميعًا؛ لكن لا تُظهر المسامحة إلا لمن كان لإظهارها أهلًا (الذين يسْعَون في أداء الحقوق أو كانوا عنها عاجزين)، أما الذي يقدِر على الأداء ولا يبالي؛ فلا تُظهر له المسامحة؛ بل أظهر له ضدَّها؛ لعله يتذكر أو يخشى.

إن الذي يغفر لظالمه من المسلمين ويتجاوز عنه؛ إنما يُعرِّض نفسه لمغفرة الله وتجاوزه في الدارين؛ فإن جزاءه من جنس العمل، مع ما ينال قلبَ الغافر المتجاوز من الصفاء والنقاء فما جعل الله له من قلبين في جوفه، وما يصيب نفسَه من لذَّة الانتصار على حظوظها، وما وعده الله به من العزة.

لقد عشت دهرًا أحسب هذه البواعث الأربعة على الصفح لا خامس لها؛ (مغفرة الله، وتزكية القلب، والانتصار على النفس، والعزة في الدنيا والآخرة)؛ حتى بَهَرَني باعثٌ خامسٌ اختصَّ الله به سيدًا من آل بيت رسوله -صلى الله عليه وسلم- فألهَمَه إيَّاه؛ ذلكم الشافعي الإمام رضي الله عنه؛ قال:

مَنْ نَالَ مِنِّي أَوْ عَلِقْتُ بِذِمَّتِهْ ** أَبْرَأْتُهُ لِلَّهِ شَاكِرَ مِنَّتِهْ

أَأُرَى مُعَوِّقَ مُؤْمِنٍ يَوْمَ الْجَزَا ** أَوْ أَنْ أَسُوءَ مُحَمَّدًا فِي أُمَّتِهْ

يتقاصَر كلُّ بيان إنسٍ وجانٍّ عن نعت هذا المقام العُلويِّ الذي رفع الله إليه نفْس هذا السيد الجليل.

هانت عليه نفسه في محبة الله والرسول والإسلام؛ حتى أعدَم كل حظوظها لأجلهم مع الحمد والرضا؛ شهد حكمة الله في قدَر مظلمته فشكر له، وعرَف حق الإسلام فغفر لمسلمٍ يؤاخيه فيه، وتعشَّق فؤادَ رسول الله فحاذَر أذاه في تابعٍ له يعاقَب بسببه يوم القيامة؛ وتلك مواهب الله يؤتيها من يشاء.

ثم إن ربك لمن تخلَّق بصفةٍ من صفاته السائغ الاتِّصافُ بها وهي صفة أنبيائه؛ لغفورٌ شكورٌ.

هذا بابٌ، وسعيُك بكل سببٍ مباحٍ متاحٍ في انتزاع حقك -مستعينًا بالحق الأكبر سبحانه- بابٌ آخر؛ فإنه حق الله قبل أن يكون حقك، ثم إنه حفظٌ لعُروة العدل من عُرَى الإسلام أن تُنقض من جهتك، وصيانةٌ للميزان الذي وضعه الله في الأرض لا تُحرَس إلا به، وتخفيفٌ عنك وعن ظالمك في الدارين.

لكن اعلم أن هذه الدار ليست بدار استيفاءٍ، “وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”، وأن عامة المستوفين ما لهم يخسرون الأدنى مع الأعلى أو يَجُورون؛ قالت عائشة رضي الله عنها: “لله دَرُّ التقوى؛ ما تركتْ لذي غيظٍ شفاءً”، وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “من خاف الله لم يشف غيظَه”.

ذلك؛ ومن لم يقدِر على العفو فلا شيء عليه، ومن كان ولا بد داعيًا على ظالمه فبقدْر مظلمته.

“خُذِ الْعَفْوَ”، “فَاعْفُ عَنْهُمْ”، “فَاصْفَحْ عَنْهُمْ”.

“وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوآ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ”.

“إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا”.

“ارحموا تُرحموا، واغفروا يغفر الله لكم”.

“عبدي؛ اذكرني في غضبك؛ أذكرك في غضبي لا أمحقك فيمن أمحق”.

“ولا يعفو عبدٌ عن مظلمةٍ -يبتغي بها وجه الله- إلا رفعه الله بها”.

“وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا”.

“فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ”.

“ينادى منادٍ يوم القيامة: أين الذين كانت أجورهم على اللَّه؛ فلا يقوم إلا من عفا”.

“ما أحدٌ أصبرَ على أذًى سمعه من الله؛ يدَّعون له الولدَ، وهو يرزقهم ويعافيهم”.

كم نعفو عن الخادم يا رسول الله؟ قال: “اعفوا عنه كل يومٍ سبعين مرةً”.

“ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ”.

“يا أيها النبي؛ إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحِرْزًا للأُمِّيين، أنت عبدي ورسولي، سمَّيتك المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ، ولا سَخَّابٍ في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة؛ ولكن يعفو ويغفر”.

“كانوا يكرهون أن يُستذلُّوا، فإذا قدَروا عفوا”.

“إياكم ورأي الأوغاد؛ الذين يرون الصفح عارًا”.

“إنا لا نكافئ من عصى الله فينا؛ بأكثرَ من أن نطيع الله فيه”.

أعذنا اللهم أن نَظلم أو نُظلم، أو نَجهَل أو يُجهَل علينا؛ حتى نلقاك في عبادك المسلمين السالمين.

يقولون: إنه نبيل الصُّحبة، يَصحب

يقولون: إنه نبيل الصُّحبة، يَصحب إخوانه على ما غلب عليهم من الخير، من ثبتت أُخُوَّتُه بيقينٍ لم يفرِّط فيه بظنٍّ، يردُّ متشابه أفعالهم إلى مُحكَمها، لا يُحوِجهم إلى الإعراب عن مقاصدهم فيما يأتون إليه ويذَرون ثقةً بهم، يحسن الظن بهم على كل حالٍ لهم، يتَّكئ فيما ينكر من أعمالهم على رواسخ صدقهم وشوامخ إخلاصهم، يقول كلَّ رِيبةٍ منهم: لعل لهم أعذارًا؛ يحكون عنه هذا وزيادةً.

فإني أعلم واحدًا؛ الشر ليس إليه، والخير كله بيدَيه، قدُّوس الذات سُبُّوح الصفات متعالي الأفعال، عادتُه الرأفة والرحمة موصولتان بلا انقطاعٍ أبدًا، يداه مبسوطتان على من أحبَّ وكره بالخير الوفير، يتحبب إلى من وصله ببدائع اللطف وروائع الإحسان، ويُعرِّض من جفاه لمُتواتر آياته الكونية والشرعية ليَلحق بالموصولين، أجمع العارفون به على جماله، وأطْبَق معاملوه على تمام كماله؛ ذلكم الله.

إذا سُرَّ قلبُك بأخبار هذا العبد النبيل في مُخَالَقَة أصحابه؛ تفتَّت كبدُك بأنباء الذين يعاملون ذلك الربَّ الكريم؛ تصفه أفواههم بالعليم الذي لا يعزُب عنه من ظاهرهم ولا باطنهم شيءٌ في عاجل الأمر وآجله، وتسبِّح ألسنتهم بحكمته التي بها يقبض عنهم ويبسُط لهم خبيرًا بصيرًا؛ لكنه إذا امتحنهم ببعض الشدائد في بعض الحياة ساءت به ظنونهم، وكأن مبتلاهم ما عُوفي قطُّ؛ وقليلٌ من عباده الشَّكور.

لقد كنت أحفظ من وَدود الشعر صغيرًا ما يهتز له فؤادي كثيرًا، وأشتهي أن أكون شاعرَ هذا الشعر أو من شُعِرَ له؛ نحوَ قول القائل: فإنْ يكُنِ الفعلُ الذي ساءَ واحدًا ** فأفعالهُ اللائي سَرَرْنَ أُلوفُ، وكقول غيره: وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ ** جاءتْ محاسنهُ بألفِ شفيعِ؛ حتى سمعت الغايةَ في ذلك: ويقبُحُ منْ سِواكَ الفعلُ عندي ** وتفعلهُ فيَحسُنُ منكَ ذاكا؛ فعرفت حينئذٍ كيف القلب إذا رضي.

هذه ظنون مَن أحبَّ فيمن أحبَّ من آحاد الناس؛ ما اعتقادك أنت في ربِّ الناس ملك الناس إله الناس! وتلك حروف مَن غاية درايتهم بالناس صُورهم العارضة لا حقائقهم الدائمة؛ فما لَهَجُك أنت في ربِّك عليمًا بأسمائه الحُسنى خبيرًا بصفاته المُثلى! وذلك ثناء موتى مفتقرين على موتى مفتقرين أمثالِهم في توافه المِنَن؛ ما ثناؤك أنت على الحيِّ القيُّوم فيما لفَّك به من الأنعُم الباطنة والظاهرة لفًّا!

لقد كان حق هذا الإله أن يُمجَّد بما ظهر من حكمته وما بطن، وأن يُثنَى عليه بالذي هو أهله فيما عُلم سرُّه من مقاديره وجُهل، وأن يُحمد على كل حالٍ وحينٍ حمدَ الشاكرين لا حمدَ الصابرين، وأن يُردَّ ما تشابه من قدره وشرعه إلى ما أُحكِم منهما وكلٌّ حَسنٌ جميلٌ؛ ألا إنه أقل ما يستحقه ممن يعتقد جمالَه وجلالَه وكمالَه؛ لا أن يكون الظنُّ ببعض خلقه أطيبَ من الظن به؛ نستغفر الله ونعتذر.

ممَّا علَّمتنيه “المُطارَدة”؛ أن أكثر

ممَّا علَّمتنيه “المُطارَدة”؛ أن أكثر ما كنت أتوهَّمُه من الأشياء ضروريًّا للحياة كان حاجِيًّا فقط؛ بل كثيرٌ من هذه الحاجِيَّات تحسينيَّاتٌ لا أكثر من ذلك، وأن أقل القليل من المآكل والملابس والأثاث كافٍ -وزيادةٌ والله- لصلاح البال والحال، وأن التخفُّف من أثقال عالم الأشياء يُفسِح لك في عالم المعاني مكانًا رَحْبًا أنت أشد فاقةً إليه، كما يبسط لك تخفُّفك من الحركة الحرة -أينما شئت- ما تعجز عنه وأنت مكبَّلٌ بالأغلال محمَّلٌ بالأثقال، وأن السعادة في القلب من الرَّبِّ غيرَ مرهونةٍ بشيءٍ من هذا جميعًا.

اليوم تبدو لي حقيبتي الصغيرة -التي هي كل ما أحوز منذ سنواتٍ- كبيرةً لا أبلغ آخرها؛ أؤكد لكم -أيها السادة- أن فيها من رفاهيات النفس ومظاهر الرخاء شيئًا وفيرًا، وأني من القوم المُترَفين.

إن فيها قصَّافةً أُقَلِّم بها أظفار الأطفال حين أظفر بها طويلةً، وفيها عُلبة مناديل زائدةٌ على عُلبةٍ زائدةٍ على ما أحتاج إليه، وفيها زجاجة عطرٍ غير التي في جيبي وغير التي في جيبٍ آخرَ بها.

ما أشد تعاسة الذين يتقلَّبون بين البؤس والحرام من الشباب والفتيات؛ حتى يشتروا بيوتًا ويُجهِّزوها بشِقِّ الأنفُس وفناء الأنفاس! لا لتَوقُّف الزواج عليها -كذبوا وربُّك الحقُّ- بل رِئَاءَ الناس.

في رحلة تنقُّل الأسرة العزيزة بين قارَّتين وثلاث دُوَلٍ وخمس محافظاتٍ وعشرين شقةً؛ لم نُحِسَّ هذا الفرق الذي يتخايل الناس عظمتَه -في المأكل والمشرب والملبس والمرقد- بين مكانٍ ومكانٍ.

حين لا تشغل عقلَك إلا بما يُصلح شأنك -على الحقيقة- دينًا ومعاشًا؛ لن تجد كبير بَوْنٍ بين شقة مستأجَرةٍ وأخرى مملوكةٍ، وستعلم يقينًا أن عامة ما عطَّلت ابتهاجَك لتحصيله فيها كان زيفًا.

إن سُكَّان الزنازين هم القادرون وحدَهم على تحديد ضروريات العِيشة الراضية؛ إنهم العارفون قيمة الشِّبر من الأرض إذا سَلِم من الخوف، واللقمة من الخُبز إذا طُعمتْ في حضرة المحبوب.

حين غُلِّق علي بابُ الزنزانة منذ ثماني عشرة سنةً؛ لا أذكر أني تذكرت حلاوة ما تنعَّمت بوجوده ولا مرارة ما شقيت بعدمه في الحياة كلها التي سبقت هذه اللحظة؛ لم تبق لي إلا بَقِيَّة الله وكفى.

هل تصدِّقني وأنا في الأربعين! إن الزمان أنت والمكان أنت والمعاني أنت والأشياء أنت؛ أنت الذي هو قلبك وجسدك وما يفتقران إليه من ذلك كله حقًّا؛ لا ما تحدِّده لك الرأسمالية النَّهَّابة النَّهَّاشة.

إذا فرغ لك موضعٌ من الأرض تصلِّي فيه فذلك المكان كله، وإذا انتزعت من الدهر دقائق تُسعد فيها الناسَ فهذا الزمان جميعًا، وإذا لم تخضع لمخلوقٍ في طُعمةٍ تَطعمها فتلك الحياة نفسها.

حتى حقيبتي إذا فقدتها وبها كل أشيائي؛ لن أبيت كئيبًا، ولن أصبح بائسًا، لقد أرشدني الله إلى مكانٍ حفظت فيه كل ما أحب فلا يضرُّني معه فقدٌ؛ ذلكم قلبي، إن فيه الرضا، وهو لي كل شيءٍ.

حين تقول لي والدة أسيرٍ:

حين تقول لي والدة أسيرٍ: “قلبي وجِعني على ابني مش قادرة”؛ أتباشر بها لولدها تباشُرًا عظيمًا، ولولا تعشُّق الشفاء لقلبها المَكلوم لرجوت مزيدَ وجعِه؛ حتى يُعجِّل الله في ولدها الخيرَ بنجاةٍ أو شهادةٍ.

إن لوجع قلوب أمهات الأسرى وآبائهم حقيقةً في السماء وصورةً في الأرض؛ فأما حقيقته في السماء فغيرة الرب الجليل عليه أن يضيع شيءٌ منه سُدًى، وكيف يضيع وهو الخالق البارئ المصور قلوبَ الأمهات والآباء، الشهيد على ما حوت من عجائب الرأفة وغرائب الرحمة بالأبناء! وأما صورته في الأرض فلُطفٌ خفيٌّ مدهشٌ يتنزل على الأسرى حيث كانوا -على حين شدةٍ من آلامهم- يحسُّونه في أنفسهم لا يشهدون له أسبابًا، ثم يحدثونك عنه بعد نجاتهم وما فعل فيهم بأحاديثَ ذاتِ شُجونٍ!

ثم إن لوجع قلوب الأمهات والآباء بركاتٍ أُخَر؛ استمطار لعنات العزيز المقتدر على الطغاة في الدنيا قبل الآخرة؛ فهؤلاء ضباطٌ في ثُكْنَةٍ لهم يسلط الله عليهم -ضُحًى وهم يلعبون- وليًّا من أوليائه، فيفجِّر فيهم نفسه ليُعجِّل بهم إلى نارٍ طال تشوُّقها إليهم لتذيقهم صُنوف عذاب الحريق، وهؤلاء عسكريون يضرب الله قلوب ساداتهم بغضبٍ عليهم، فيعزلونهم فجأةً عن مناصبهم، فيموتون قبل موتهم إذ يُردُّون إلى أحوالٍ بشريةٍ تنكرهم وينكرونها، وهؤلاء قضاةٌ خبَّأ الله لهم أمراضًا نفسيةً وعصبيةً تلفُّهم بأثواب التعاسة لفًّا، وهؤلاء وزراء تدور عليهم الدنيا كما دارت لهم، فيُطرحون في سجنٍ من السجون لا يُبالَى بهم، وهؤلاء جنودٌ حال الله بينهم وبين صلاح البال كما حال بين المشرق والمغرب، فلا يعرفون له سبيلًا، وهؤلاء رؤساء سلبهم الله العِيشة الراضية بين الأهل والأبناء فبعضهم لبعض عدوٌّ في كل شيءٍ، وهؤلاء كبراء أذل الله نواصيهم بأسقامٍ في أجسادهم لا ينفعهم فيها طبيبٌ ولا دواءٌ؛ وهؤلاء أمراء حرَمهم الله الأمن في بروجهم المُشيَّدة وحصونهم الحَصينة، فيحسبون كل صيحةٍ عليهم؛ ما ذاك كلُّه وسواه إلا عذابٌ يسيرٌ بين يدَي عذابٍ في قبورهم ويوم لقاء الله أشدَّ وأشقَّ، لو كانوا يعلمون.

يا أفئدة المظلومين؛ توجَّعي أو لا تتوجَّعي، هذه دارٌ يليق بها ذلك وأكبر من ذلك، ولو أن الله جعلها دار الراحة، ثم تعبنا فيها ولَغِبنا؛ لتحيرنا وعجبنا؛ لكنه بسط القول في حقيقتها وزاد، ولعلك ترتاحين -ونرجو الله- قريبًا غير بعيدٍ؛ لكنَّ كل راحة هنا إلى نفادٍ، وقد جعل الله للراحة الكبرى موعدًا.

“أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ

“أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ”.

تُعلِّمك “ثقافة التكاثر” أن ما دون الألف “لايك” على المنشور الواحد؛ ليس شيئًا، وتُعلِّمك “ثقافة الآخرة” التي أول ظروفها الزمانية المكانية “المقابر”؛ أن الشيء الواحد -إذا صفا لك- فهو كل شيءٍ.

“لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا؛ خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم”؛ إن التكثُّر من كل شيءٍ علةٌ جارفةٌ طُبع عليها الإنسانُ لا حيلة له فيها؛ لذلك واجهها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما يليق بها من الدواء.

إن هداية إنسانٍ بك غاية غاياتك النفسية الباقية، إنك تُخَلِّده بها في رضوان الله تخليدًا أبديًّا، وحُمْر النَّعَم -أنفسُ أموال العرب من الإبل يُضرب بها المثل- غاية غاياتك المادية الزائلة؛ فأنَّى تستويان!

إن “ثقافة الآخرة” التي لم يزل عبيد الدنيا من العلمانيين وآلهتهم يُعَيِّرون بها المؤمنين؛ هي الوحيدة المُعَلِّمة الناسَ زيفَ ما يلهثون خلفه من الحُطام؛ “كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ”.

“وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا”؛ هذه عُظمى المواعظ؛ كثرةٌ من الصحابة -وما أدراك!- فيهم نبي الله -ثم ما أدراك!- لم تنفعهم فهُزموا؛ ثم ترجو أنت من كثرةٍ بعدها خيرًا!