ألم يُعَوِّدك رحمته!
ألست الغادي الرائح في آلائه!
متى كنت بدعائه شقيًّا!
فيم سوء الظن به وما أَلِفْت سوى لطفه! أم أن إيلافك اللطف بجَّحك!
ألست الناقم على كل من أحسنت إليه بالنَّقير والقِطمير؛ فلم يشكر لجلال نَعمائك! أين نقمتك على نفسٍ كَنودةٍ تعدُّ يسير المصائب وتنسى وفير الأنعُم!
تذكُر يوم صبَّحك راضيًا مجبورًا؛ وقد بِتَّ بمعصيته مسرورًا!
كم كشف عنك من ضرٍّ وهمٍّ! وأذهب عنك من بأسٍ وغمٍّ!
ألست محوطًا بأنعُمه باطنةً وظاهرةً؛ في نفسك وفي أهلك ومن تحب!
كم يشتاق لحُرِّيتك أسيرٌ لا يرجو عليها مزيدًا! ويتمنى عافيتك سقيمٌ قرَّح جلدَه طولُ الرُّقاد! ويشتهي مخطئ سَترٍ يلفُّك عبدٌ أصابته الفضيحة!
كم تبغَّضت إليه -جافيًا- بما يكره؛ فوالاك -متوددًا- بما تحب!
هل فرَّط في هدايتك الكونية والشرعية من شيءٍ؛ فتعتب عليه بشيءٍ!
لو لم يجعل محلَّك أوسع العافية؛ ما أعانك لسانك على شكواه إلى خلقه.
من علَّمك أن لك عنده شيئًا وأن عليه فعله لك! عزَّ الفعال لما يريد وتبارك.
ساعةَ أثنى عليك أحدهم خيرًا ولم تغسل يدَك بعدُ من فسوقٍ؛ كيف نسيتها!
كم دلَّك عليه، وعلَّمك من لدنه، وعرَّفك سبيله، ووصلك بهُداه!
كم أقامك في مراضيه حين قام غيرُك في مساخطه؛ يختصُّك بالعناية!
أرأيت كيف جعل إمهاله إلهامًا وإنظاره إنذارًا؛ فهو يتابع لك بين آياته لتؤوب!
أفلما شرح للطاعات صدرك من بعد سعيك في المعاصي؛ كان شكره نسيانه!
الساعة التي تصلِّي فيها هي هي ساعة إشراك مشركٍ، وابتداع مبتدعٍ، وظُلم ظالمٍ، وفجور فاجرٍ، وشرود شاردٍ، وإلحاد مطرودٍ عن الطريق كلها.
ما لك من سوابق الخير معه حتى يعصمك من فاحشةٍ قارفها أقرب الناس منك! وينجِّيك من ظلمٍ لابَسَه جارٌ ليس بينك وبينه غير جدارٍ! ويسلِّمك من غوايةٍ أشهدك احتراق العامة بها! أم تحسب أنه أحرزك من هذا كله بما تستحق!
أي حسنةٍ لك عنده حتى يَنْظِمَكَ في صفوف الموحِّدين حقًّا؛ تعادي أعداءه وتوالي أولياءه! ولو شاء جعل عقوبتك في معاداة أوليائه وموالاة أعدائه.
هذا الإسلام الذي أنعمك به؛ ضل عنه كافرٌ يود يوم التغابن لو أنه أسلم، هذه السُّنة التي ترغد فيها حُرِمَها مبدِّلٌ يُذاد عن الحوض غدًا، تلك الفتن التي تُصَد آناء الليل وأطراف النهار عنها؛ هو الذي أنقذك برأفته ورحمته منها.
لماذا لم تكن في صفاته معطِّلًا أو مجسِّمًا! وفي الإيمان خارجيًّا أو مرجئًا! وفي القدَر نافيًا أو غاليًا، وفي الإمامة شِيعيًّا أو ناصِبيًّا!
لولا أن منَّ عليك بمنهاج أهل السُّنة تتقلَّب في ساجديهم؛ لخسف بك.
لماذا جاء بك أنت من العدم -دون من لم يجئ- ليُعرِّضك لسعادة العبادة في الدنيا، ثم لعبادة السعادة في الجنة، تخلد في رضوانه الأكبر محبورًا بلذة النظر إلى وجهه الأكرم! ولو شاء لم يأت بك فلم تتعرَّض لهذا جميعًا.
كم باعدَت ألطافه بين ذرَّات بلائك الكثيف؛ حتى أخرجتك إلى براح العافية!
كم يسَّر لك عسيرًا، وقرَّب إليك بعيدًا، وفتح عليك مغلَّقًا، وجمع لديك مفرَّقًا!
كم قطَعته -فقيرًا إليه، وهو الغني الحميد- فوصلك!
كم بعدُت عنه -لا حول لك ولا قوة إلا به- فأدناك منه!
كم استدبرت رحمته فاستقبلك بها تلقاء وجهك؛ يقول لك: لا تُعرض عني!
كم أعميت عينك عن رسالةٍ أرسلها إليك، فأقرأها قلبَك فوعاها؛ فصلُح بها شأنك، ومشيت بها سويًّا على صراطٍ مستقيمٍ!
السماوات والأرض، الليل والنهار، الشمس والقمر، البر والبحر والجو، الماء والرياح والتراب، المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمراقد والملابس والمراكب والمنابت والمحاضن والمداخل والمخارج، هذه وسواها من عطاءات الربوبية؛ ما جعلها الله إلا لك.
القرآن آيةٌ آيةٌ، الملائكة ملَكٌ ملَكٌ، الأنبياء نبيٌّ نبيٌّ، عقائد الإسلام وشرائعه وآدابه، العُبَّاد والعلماء والحُفَّاظ والمصلحون والمجاهدون، هذه النعم وغيرها من عطاءات الألوهية؛ ما جعلها الله إلا لك.
كيف صارت عطاءات الربوبية وعطاءات الألوهية نعمًا مألوفةً مغفولًا عنها لا تكاد تُذكر فتُشكر! كأنما هي حقٌّ لي ولك، وكأن على المنعم بها شُكر قبولنا لها.
نعمٌ ما كان حق الواحدة منها؛ إلا سجود القلب الحياةَ كلها يحاول بعض الحمد وبعض الشكر وبعض الوفاء، وما هو ببالغٍ شيئًا من ذلك ولا يستطيع.
تأمَّلْ سُطورَ الكائناتِ فإنها ** منَ المَلكِ الأعلى إليكَ رسائلُ
وقدْ خطَّ فيها لوْ تأمَّلتَ نقشَها ** ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ
أتراه يستكثر بك من قلَّةٍ، أو يستعز بك من ذلَّةٍ؛ فهو يسارع في هواك!
لم يقل ربك: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”؛ حتى قال في عقبها: “مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ”؛ ليُعْلِمك أنه لا يكلِّف أحدٌ أحدًا بشيءٍ إلا وهو غانمٌ به منتفعٌ منه، إلا هو، فإنه بصفات الكمال وكمال الصفات كلَّف، وما كلَّف المكلَّفين إلا لِمَا هو عائدٌ عليهم هم من عوائد الخير في دُورهم الثلاثة، وما كانوا أجمعون ليَبْلغوا نفْعه فينفعوه شيئًا.
ذلك الله؛ هو ربك وأنت صنعته، ولا يصنع صانعٌ حكيمٌ من الناس شيئًا ليُتلِفه؛ كيف بالحكيم الخبير واسع الرحمة والمغفرة! ما خلقك إلا للرحمة، ولا أنزل إليك الكتاب لتشقى، فما أصابك بعدُ من تلفٍ فمن نفسك.
من بصَّرك ما بصَّرك به أجمل الجُملاء من آيات كونه وشرعه!
من أسمعك ما أسمعكه أكرم الكُرماء: “يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ”!
لم لا تشهد من نعمه إلا ما منعك منه أو أجَّله عنك؛ عليمًا بك رحيمًا!
لم يُثيبك على صبرك في المصائب؛ وما أصابتك إلا بما كسبت يداك!
تسوؤوك ساعاتٌ من البلايا ما كان لها أن تخلو من لطف الله ورحمته؛ وأنت محوطٌ بالعافية قبلها وبعدها! ثم إنه ليس للبلايا غايةٌ إلا تأهيلك للغفران والرضوان، وهي أعون أسباب دنيا العبد على دينه لو كان من الفاقهين.
كيف أطعت من أخرج أباك من الجنة في شهوةٍ زيَّنها لك! أم كيف صدَّقته في شبهةٍ أدخلها عليك! أم كيف كنت سببًا في “وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ”!
كيف إذ أعرضت لم تُقبل! أم كيف حين عثرت لم تنهض! ألا تستوحش بعيدًا!
ألم تعلم أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه! ألم يأتك أن رُجْعاك إليه يومًا قريبًا!
قد أحبَّ لك أن تلقاه آمنًا مرحومًا؛ فلم يزل يُحَبِّبك ويُرَغِّبك ويُقَرِّبك مما تكون به يوم لقائه كذلك، لم يضرب عنك الذِّكر صفحًا أن كنت من المسرفين.
قد أعد النار يوم أعدها لغيرك؛ ففيم ركضُك أنت إليها وإصرارك عليها! أحالفٌ أنت بين الرُّكن والمقام أن تدخلها؛ فأنت آخذٌ في الوفاء بقسمك!
أليس عجيبًا أن فرض عليك حُسن الظن به والاستبشار برحمته؛ وإن عصيت!
أليس غريبًا أن جعل قنوطك من رحمته وإن كنت لذلك أهلًا؛ كفرًا به أكبر!
عبادٌ أعرضوا عنا ** بلا جُرمٍ ولا معنى
أساؤوا ظنهمْ فينا ** فهلَّا أحسنوا الظنا
فإنْ خانوا فما خُنا ** وإنْ عادوا فقدْ عُدنا
وإنْ كانوا قدِ استغنَوا ** فإنا عنهمُ أغنى
“وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا”! خالعةٌ هذه القلوبَ تُطَيِّرُها. آهٍ وأوَّاه وأوَّتاه وأوَّه!
لا إله إلا الله العفُوُّ؛ العفوَ يا مولى الموالي، العفوَ إنك تحب العفو، العفوَ إنك أهل العفو، العفوَ إنك كريم العفو، العفوَ إنا محاويج العفو.
يا من لا تنفعه طاعة من أطاعه كما لا تضره معصية من عصاه؛ اقبل منا ما لا ينفعك وإن كان قليلًا، واغفر لنا ما لا يضرك وإن كان كثيرًا.
أفلَح الفارٌّون إلى سريع العفو والمعافاة، قد أيقظت أفئدتهم هذه الموعظة؛ “مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ”! اللهمَّ اللهمَّ، إنا نحبك.