مساءُ الوحيِ والسيفِ ** عقيدةُ كلِّ ذي جوفِ
منَ الأحرارِ في قدسٍ ** مغاويرٍ لدى الزحفِ
أيها الداخلون في الإسلام كافةً، الآخذون ما آتاهم الله بقوةٍ، غيرُ المقتسمين الجاعلين القرآن عِضِين؛ مساؤكم وحيٌ وسيفٌ، لا يفرِّق بينهما إلا منافقٌ.
“بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ”؛ كذلك مضت سنة الله في الحق ألا يفعل في الباطل أفعاله إلا مقذوفًا به، وألا يَزهق الباطل إلا بالحق مرميًّا به في دماغه؛ لا تبديل لكلمات الله.
“وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا * وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ”؛ قالت طائفةٌ: الحق القرآن، وقالت أخرى: الحق الجهاد. لأنهم كانوا أهل قرآنٍ وجهادٍ جميعًا فلم يفرِّقوا بينهما، وكما جمع الله بين إزهاق الباطل وتنزيل القرآن علمًا؛ جمعوا هم بينهما عملًا.
إن الذين يدعونكم اليوم إلى دينٍ لا سيف له؛ كالذين تمنوا بالأمس قرآنًا لا يحضُّ على قتالٍ؛ “وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ”؛ هؤلاء أبناء أولئك البررة، لُعِنوا أجمعون.
تالله ما كانت عقيدة (الوحي والسيف) إلا علمًا ضروريًّا يُستدلُّ به لا يُستدلُّ له؛ حتى خسفت خلائقُ الجبن بحثالةٍ من عبيد الأرض، فباتوا يتطلَّبون لها البراهين العقلية والأدلة الشرعية كأنها علمٌ حصوليٌّ؛ فأُفٍّ وتُفٍّ.
ليس بين الإيمان بالوحي والكفر بالسيف إلا النفاق، واقرؤوا -مأمورين- قول ربكم: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ”؛ جعل -تعالى- بين إيمانهم وبين جهادهم هذه الصفة السالبة “ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا”؛ لأن الشك في الوحي هو المُقْعِد عن الجهاد، كما حكى الله عن المنافقين الأوائل: “إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ”؛ فلا ينفي الشك عن الإيمان نفيًا ويُثْبِت اليقين فيه إثباتًا إلا الجهاد.
“وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا”؛ قال ابن تيمية رحمه الله: “قِوام الدين كتابٌ يهدي، وسيفٌ ينصر”. قلت: فمن أراد بالله في النصر اكتفاءً؛ فليقبل هداه وسيفه.
“لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ”؛ قال الغزالي رحمه الله: “إن الله لما علم أن في الناس من لا ينفعه الكتاب الذي أنزله الله هدًى للناس؛ أنزل مع الكتاب الحديد فيه بأسٌ شديدٌ؛ لِعلمه أنه لا يُخْرِج المِراء من أدمغة أهل اللِّجاج إلا الحديد”. (التوحيد والحديد) عقيدةٌ أطبق عليها سلفك، ثم خلَفت بعدهم خُلوفٌ عِزِينَ.
“وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ”؛ لما جمع الله لنبيه داود -عليه صلاتُه وسلامُه- بينهما؛ كان من شأنه في إقامة الحق في الخلق ما كان.
“هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ”؛ فإن تسَل عن ذلك الظهور الذي هو غاية إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن جوابه سُوَر هذه الآية الثلاثة؛ التوبة والفتح والصف؛ فأما التوبة فقد نزلت في الذين خانوا الوحي والسيف، وأما الفتح والصف فحسبك من اسمَيهما ما أراد الله بالوحي والسيف شرعًا، وما حقَّت به سننه الكونية فيهما قدَرًا.
نبيٌّ أتانا بعدَ يأسٍ وفترةٍ ** منَ الرسلِ والأوثانُ في الأرضِ تُعبدُ
فأمسى سراجًا مستنيرًا وهاديًا ** يلوحُ كما لاحَ الصَّقيلُ المهندُ
يُشَبِّهه شاعره الأجلُّ حسان بن ثابتٍ -رضي الله عنه- بالسيف؛ إذ يحمده بالهدى ويمدحه، فلا يزدان مدح مسلمٍ إلى يوم القيامة إلا بهما.
“وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ”؛ تحسبون إحقاق حقكم وقطع دابر عدوكم؛ يكون بوحي ربكم في غير أسباب عزكم! فلقد أراد الله شريعةً تُصان بالسيف، وسيفًا يُزان بالشريعة، لا تفريق بينهما -بلا مساواةٍ- في الأذهان ولا في العِيان.
“إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ”؛ ما كان تثبيت المؤمنين في الجهاد إلا وحيًا يُوحى، وما كان وحي الله ليذر المؤمنين يقاتَلون بلا تأسيسٍ لعقائد القتال وشرائعه وأخلاقه.
قال الرافعي رحمه الله: “إن للسيوف في الإسلام أخلاقًا”. قلت: مبصرةٌ سيوفُنا لا تَخبط عشواء، صارمةٌ تحسم العلل والأدواء، حكيمةٌ في الابتداء والانتهاء.
يا صاحبَ الحقِّ الكبيرِ عرفتَهُ ** وبسطتَهُ في حكمةٍ وأناةِ
وضربتَهُ مثلًا لكلِّ مكابرٍ ** لا يستوي حقٌّ بغيرِ حُماةِ
“وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ”؛ قضى الله ألا تقوم (لا إله إلا الله) في الأرض تامةً؛ إلا بجهاد أهلها في سبيلها كاملًا غير منقوصٍ.
والرأيُ لمْ يُنْضَ المهندُ دونهُ ** كالسيفِ لمْ تضربْ بهِ الآراءُ
الحربُ في حقٍّ لديكَ شريعةٌ ** ومنَ السمومِ الناقعاتِ دواءُ
قد جمع الله لرسله القوتين النظرية والعملية، فقال: “أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ”؛ بالأولى يَفْرُقون بين الحق والباطل علمًا، وبالأخرى يفرِّقون بينهما عملًا.
قال سيد قطب رحمه الله: “والشر جامحٌ والباطل مسلَّحٌ، وهو يبطش غير متحرِّجٍ، ويضرب غير متورِّعٍ، ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له؛ فلا بد للإيمان والخير والحق من قوةٍ تحميها من البطش، وتقيها من الفتنة، وتحرسها من الأشواك والسموم، ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق عُزَّلًا تكافح قوى الطغيان والشر والباطل؛ اعتمادًا على قوة الإيمان في النفوس وتغلغُل الحق في الفِطَر وعمق الخير في القلوب؛ فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس وتُزيغ الفِطَر، وللصبر حدٌّ وللاحتمال أمدٌ، وللطاقة البشرية مدًى تنتهي إليه، والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم، ومن ثَمَّ لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة؛ إلا ريثما يستعدون للمقاومة، ويتهيؤون للدفاع، ويتمكنون من وسائل الجهاد، وعندئذٍ أذن لهم في القتال لرد العدوان”.
قالوا غزوتَ ورسلُ اللهِ ما بُعثوا ** لقتلِ نفسٍ ولا جاؤوا لسفكِ دمِ
جهلٌ وتضليلُ أحلامٍ وسفسطةٌ ** فتحتَ بالسيفِ بعدَ الفتحِ بالقلمِ
قال شيخنا رفاعي سرور رفعه الله درجاتٍ وسرَّه يوم الحسرات: “اعتبار القوة وسيلةً؛ ليس فيه تجاوزٌ على وسيلة الإقناع بالكلمة”.
قال محمد رشيد رضا رحمه الله: “كن قويًّا بالحق؛ يعرف لك حقَّك كلُّ أحدٍ”.
إن الذين قالوا لموسى وقعدوا: “فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَآ”؛ خيرٌ ممن جاء بعدهم فقعد قعودهم وضل عن القتال سبيلًا؛ إنهم -على سوء أدبهم مع الله وكليمه- كانوا بُصراء بالمَخرج، لم يُلبسوا جبنهم مثقال فلسفةٍ.
ما كان دواء داء طغيان الجبارين في الأرض قطُّ إلا الجهاد، ولا يكون إلى يوم القيامة إلا كذلك، سنة الله في الحرب التي لا تتبدل ولا تتحول، ألا من عجز عن الجهاد عملًا؛ فلا يَضِل ويُضِل عنه نظرًا.
والحقُّ ليسَ وإنْ علا بمؤيَّدٍ ** حتى يُحوِّطَ جانبَيهِ حسامُ
“وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا”؛ قال قتادة رحمه الله: “إن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- علم ألا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطانٍ؛ فسأل سلطانًا نصيرًا لكتاب الله، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله؛ فإن السلطان رحمةٌ من الله جعله بين أظهُر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعضٍ؛ فأكل شديدُهم ضعيفَهم”.
والبيتُ لا يُبتنى إلا لهُ عُمُدٌ ** ولا عمادَ إذا لمْ تُرْسَ أوتادُ
فإنْ تجمَّعَ أوتادٌ وأعمدةٌ ** وساكنٌ بلغوا الأمرَ الذي كادوا
لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سَرَاةَ لهمْ ** ولا سَرَاةَ إذا جُهَّالُهمْ سادوا
إن سورة “اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ”؛ هي سورة “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ”؛ فمن دعا إلى هذه وصد عن تلك؛ لم يكُ إلا كافرًا بهما جميعًا، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلمٌ، وكيف يكون لله ورسوله مستجيبًا؛ من بات لعدوه وعدوهما جنيبًا! أما نحن فعلى رؤوسنا الأنفال وحيًا وسيفًا من ياءٍ إلى ميمٍ.
قال الغزالي رحمه الله: “والمُلك والدين توأمان؛ فالدين أصلٌ، والسلطان حارسٌ، وما لا أصل له فمهدومٌ، وما لا حارس له فضائعٌ”.
وما هوَ إلا الوحيُ أوْ حدُّ مُرْهَفٍ ** تُميلُ ظُباهُ أَخْدَعَيْ كلِّ مائلِ
فهذا دواءُ الداءِ منْ كلِّ عالمٍ ** وهذا دواءُ الداءِ منْ كلِّ جاهلِ
قال علي الطنطاوي رحمه الله: “سنة الله في هذه الدنيا أن الحق إن لم تكن معه القوة؛ سطا عليه الباطل حينًا، وللباطل جولةٌ ثم يضمحل، ونحن لما تركنا سنة الله ولم نَحْم حقنا بقوتنا؛ كان ما كان”.
والحقُّ والسيفُ منْ طبعٍ ومنْ نسبٍ ** كلاهما يتلقَّى الخَطْبَ عُريانا
قال عبد العزيز الطريفي فك الله أسره وأمكن من الكفرة آسِريه: “الحق بلا قوةٍ ضعفٌ، والقوة بلا حقٍّ ظلمٌ، وإذا اجتمع الحق والقوة تحقق العدل”.
سُقْنا الأدلةَ كالصباحِ لهمْ فما ** أغنتْ عنِ الحقِّ الصُّراحِ فتيلا
منْ يستدلَّ على الحقوقِ فلنْ يرى ** مثلَ الحُسام على الحقوقِ دليلا
إِنْ صُمَّتِ الآذانُ لنْ تسمعْ سوى ** قصفِ المدافعِ منطقًا معقولا
لغةُ الخصومِ منَ الرُّجومِ حروفُها ** فليقرؤوا منها الغَداةَ فصولا
لما أبَوا أنْ يفهموا إلا بها ** رُحْنَا نرتلها لهمْ ترتيلا
أدَّتْ رسالتَها المنابرُ وانبرى ** حدُّ السلاحِ بدَورهِ ليقولا
قال عتبة بن أبي سفيان رحمه الله: “اعرفوا الحق تعرفوا السيف؛ فإنكم الحاملون له حيث وضعُه أفضل، والواصفون له حيث عملُه أعدل”.
قديمًا قبل افتراق القرطاس والسيف؛ كانا على الحق أخوَين حميمَين، متساندَين لا متعاندَين، كان القرطاسُ صفحةَ السيف، والسيفُ ريشةَ القرطاس، لا يضرب السيفُ إلا بنور القرطاس، ولا يُسْطَر القرطاسُ إلا في ظل السيف، لا جَرَم لم يُقَلِّد نبيُّ الله أبا هريرة سيفَ خالدٍ، كما لم يناول خالدًا قرطاسَ أبي هريرة؛ لكنه علَّم الشيخ صَفَّ قدميه في الجُند حين يَثني القائدُ ركبتيه في الحلَقة، فإذا رأيت قرطاسًا يعادي سيفًا فاعلم أنه من زورٍ قُرْطِس.
قال: فأنت كالقائل: لا يُدفع عن الإسلام وأهله ضرٌّ ولا يُجلب إليهما نفعٌ إلا بالسيف! قلت: من زعم أن مجد الأمة موقوفٌ على القتال؛ فقد ضل وأضل، والجهاد أعمُّ من القتال، وأعظمُه البيان بالوحي؛ وهو المُوَطِّئ للقتال ابتداءً، والمُظِلُّ لحركته أثناءً، والحافظ لثمراته انتهاءً، وإنما السيف خادم الوحي وغلامه، لا يُسَكِّن متحركًا ولا يُحَرِّك ساكنًا إلا بإذن مولاه، وكلٌّ من عند الله.
“فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا”، “يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ”، بالقرآن وبالسيف أمر الله رسوله بجهاد الكافرين؛ لا يفرِّق بينهما إلا أصَمُّ عن القرآن أعمى عن الواقع.
التمكين درجتان دنيا وقُصْوى؛ تمكين مِنَّةٍ وإزاحةٍ واختبارٍ الذي في الأعراف والقَصص، وتمكين غلبةٍ وإحلالٍ واقتدارٍ الذي في الحج والنور، الأول يكون من الله مَنًّا على عباده المستضعفين -كلَّ انسدادٍ تامٍّ في شرايين الحياة- يبتليهم بسعته بعد ضيقهم لينظر كيف يعملون، والثاني جعل الله له جُملتين من الأسباب عرَّفها أُولي العلم والنُّهى؛ جُملة أسبابٍ كَسْبيةٍ بشريةٍ، وجُملة أسبابٍ وَهْبيةٍ ربانيةٍ، وقد يستوفي المؤمنون الجُملة الأولى بتوفيق الله ثم لا تصيبهم الثانية بحكمة الله فلا يُمكَّن لهم، وقد يستوفونها -أو يقاربون- فتصيبهم برحمة الله فيُمكَّن لهم، ولا يكون التمكين الأعلى حتى يكون الأدنى، وبين الأدنى والأعلى ما شاء الله من درجاتٍ في أزمانٍ على أحوالٍ بأسبابٍ شَتَّى.
قال: فهل التمكين غايةٌ أم وسيلةٌ؟ أعني العمل لحاكمية الإسلام وحكمه.
قلت: التمكين غايةٌ لما قبله، ووسيلةٌ إلى ما بعده؛ ألم تر إلى ربك كيف قال: “الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ”! فجعله وسيلةً لإقامة الإسلام بأقصى درجةٍ في أعمِّ مساحةٍ، وما كان كذلك فهو غايةٌ لما قبله؛ فتبصَّر.
يا هذا؛ قد ضل في هذه المسألة -من الإسلاميين- طائفتان؛ طائفةٌ جعلت قصدها وأقوالها وأعمالها في سبيل ذلك وحده؛ حتى فرَّطت في عقائدَ وشرائعَ ومعاملاتٍ تفريطًا شنيعًا، وإنما جُعل التمكين لإقامة الدين؛ فكيف يُتوصَّل إليه بما يُحادُّه ويُشاقُّه! وطائفةٌ عصف بنفوسها متواتر الهزائم؛ حتى انفسخ في قلوبها ماضي العزائم، فباتوا لمعنى التمكين الدعوي الجهادي السياسي منكرين، ويقرِّرون في ذلك تقريرات العلمانيين نفسَها في تبعيض الإسلام وتَعْضِيَة عقائده وشرائعه؛ غير أن هؤلاء أشد جنايةً على الإسلام وأهله؛ لِمَا يُعْرَفون به في الناس من الانتساب إلى الحق؛ فالقصدَ القصدَ بينهما.
يا حبيبي؛ إياك وصراط المقتسمين “الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ”، فقالوا: “نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍٍ”، ولقد ورث هؤلاء اليوم طائفةٌ أقلُّ منهم شرفًا -بانتسابهم إلى الإسلام، ودعوتهم إليه- وقد جعلوه أحاديث ومزَّقوه كلَّ ممزَّقٍ؛ ففرَّقوا بالجهل بين جوانب الإسلام في النظر، وعارضوا بالظلم بين نواحيه في العمل، جعلوا لله مما أنزل من الشرائع والأحكام نصيبًا؛ فقالوا: (الصراع السلطوي) للجاهلين الحماسيِّين الفارغين بزعمهم، وتبيين الوحي شرائعَ ومقاصدَ لأمثالنا؛ فما كان لغيرهم شنَّعوه بتصريحاتٍ وتلميحاتٍ وبشَّعوه، وما كان لهم فحِمًى عزيزٌ حَرِيزٌ مصونٌ، لأشباههم وما ملكتْ شمائلُهم كهنوتٌ مكنونٌ، وعمَّن خالفهم محظورٌ مجذوذٌ ممنونٌ؛ ألا ساء ما يحكمون.
يا حبيبي؛ إن العلم بالوحي هو العلم؛ بصائرُ الله الحافظاتُ عبادَه؛ لكنَّ طالب علمٍ لا ينازل الجاهلية ولدٌ لها وإن ادَّعى لغيرها، وغاية علمه أن يُعَمَّم جاهلًا بالله، مهما فاق في فنونه طُولًا ومَهَر عَرضًا، وإن النُّسك هو النُّسك؛ حكمة الحق من الخلق، لكنَّ استدبار العابدين مقارعة الكافرين صلواتٌ في محاريب الشياطين، وشيوخه دجالون، وإن طالت لحاهم إلى السُّرَر، وقصُرت قُمُصُهم إلى الرُّكَب، وإن الإصلاح هو الإصلاح؛ قِبلة رسالات السماء؛ لكنه بإذنٍ من فرعون خرابُ الأرض، وكلُّ ناقةٍ لا تكيد الجاهلية لعقرها فليست بناقة (صالحٍ)، وإن نعق في الناس: إني رسولٌ من رب العالمين.
وقالَ اللهُ قدْ أرسلتُ عبدًا ** يقولُ الحقَّ إنْ نفعَ البلاءُ
وقالَ اللهُ قدْ سيَّرتُ جندًا ** همُ الأنصارُ عُرضَتُها اللقاءُ
“وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ ۖ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا”؛ لولا قراءة أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه ورضي عنهم- وحي الله بيِّنًا تامًّا على أعدائهم؛ ما سعوا في البطش بهم، ولو كتموا ونقصوا يومئذٍ لتركوهم، فأما اليوم فقد رضي الطواغيت بجماعاتٍ من المسلمين! تقرأ القرآن على الناس.. لكنْ غير بيٍّن وغير تامٍّ؛ فلَتقرؤنَّ القرآن كله على طواغيت الزمان جميعهم لا تستثنون منه ما يغيظهم؛ أو لتَدخلنَّ في دين الطواغيت وأنتم لا تشعرون.
وأخوفُ ما يخافُ الكفرُ منا ** عقيدتُنا وحدثنا الإمامُ
يا معشر من أسند ظهره إلى الإسلام جميعًا يبتغي به عز الدنيا ونجاة الآخرة؛ لا تُزَيِّلوا بين قوة حقه وحق قوته مثقال ذرةٍ فما دونها، سلفيين وأشاعرة وصوفيةً وسواكم؛ إلا تأخذوا الكتاب بقوةٍ جميعًا يعاقبكم الله بما عاقب به أسلافكم المفرِّقة؛ “فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ”؛ الجزاء من جنس العمل؛ فرَّق أولئك بين آيات الله ففرَّق بينهم، وعطَّل أكثركم الجهاد نظرًا أو عملًا؛ فجعل الله شقاقكم بينكم وقاتل بعضكم بعضًا؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ومتى جاهدت الأمة عدوها؛ ألَّف الله بين قلوبها، وإن تركت الجهاد شَغل بعضَها ببعضٍ”.
ومنْ يبغِ حقًّا دونَ سيفٍ فإنهُ ** كحالبِ تيسٍ بالأباطيلِ يحلمُ
أيها الداخلون في الإسلام كافةً، الآخذون ما آتاهم الله بقوةٍ، غيرُ المقتسمين الجاعلين القرآن عِضِين؛ مساؤكم وحيٌ وسيفٌ، لا يفرِّق بينهما إلا منافقٌ.
مساءُ الوحيِ والسيفِ ** عقيدةُ كلِّ ذي جوفِ
منَ الأحرارِ في قدسٍ ** مغاويرٍ لدى الزحفِ