قدَّر الله المرض لجسده، فأصحَّ

قدَّر الله المرض لجسده، فأصحَّ قلبه وأيقظه، فتاب إلى الله وأناب.

قدَّر الله له الحبس، فأطلق قلبه وجوارحه في طاعاتٍ كان عنها مصروفًا.

قدَّر الله موت محبوبه، فأحيا روحه لِمَا لم يخلقها إلا لأجله (عبادته).

قدَّر الله له الاستيحاش من خلقه، فآنس قلبه بقيام الليل وطول سجوده.

إن من الخير خيرًا لا يقدُره الله إلا بالشر، وإن من العافية عافيةً لا يمنحها الله إلا من ‍البلاء، وإن من الحرية حريةً لا يبسطها الله إلا في السجن، وإن من الحياة حياةً لا يهبها الله إلا ‍بالموت، وإن من السعادة سعادةً لا ينشرها الله إلا من البؤس، وإن من اليُسر يُسرًا لا يقضيه الله إلا في العُسر، وإن من الحق حقًّا لا يُقيمه الله إلا بالباطل، وإن من الجمال جمالًا لا يَبُثُّه الله إلا من القُبح، وإن من القوة قوةً لا يُظهرها الله إلا في الضعف؛ على هذه فقيسوا، وآمنوا بالأقدار شرِّها قبل خيرها، وسلِّموا لمُجْرِيها تسليمًا، “وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”.

قال ولدي باكيًا: لو كنت

قال ولدي باكيًا: لو كنت محبًّا لله ما بارزته بالقبائح كل حينٍ.

يا حبيبي؛ ما جوابي إياك بأحسن من جواب جَدِّك ابن رجبٍ الحنبلي رحمه الله: “ليس شرط المحب العصمة؛ إنما شرطه كلما زل أن يتلافى تلك الوصمة”.

قال: إنما يقال هذا لذي قلبٍ طاهرٍ؛ لا إِخَالُ قلبي إلا نجسًا.

يا حبيبي؛ أصغ إلى جَدِّك: “يا قوم؛ قلوبكم على أصل الطهارة، وإنما أصابها رشاشٌ من نجاسة الذنوب؛ فرُشُّوا عليها قليلًا من دمع العيون وقد طهُرت”.

قال: أنت أعجز عن تخايُل ما عليه نفسي؛ أنَّى يقبلني ربي!

يا حبيبي؛ مهما أسأت الظن بنفسك فأحسن الظن بالله، نحن لا نحسن الظن بالله أنه يغفر ويتوب ويهدي لاستحقاقنا هذا؛ إنما نحسن به الظن لأنه الله.

قال: زدني في هذه بيانًا؛ زادك الرب من كل خيرٍ يرحم به.

يا حبيبي؛ قد يليق بالنفس سوء الظن لقعودها عن معالي الأمور شغلًا بسَفْسَافِها؛ لكنه لا يليق بالرب مهما يكن من شيءٍ من الخلق؛ فإنه الذي هو الآن على ما عليه كان، وكما كان بصفاته أزليًّا كذلك لا يزال عليها أبديًّا، السُّبُّوح القدُّوس السلام المتكبر المتعالي العزيز الطيب الجميل الحميد النور البديع، وإن القدْر المشترك بين أسماء ربك الحسنى هذه؛ هو تنزُّهه -علا وتبارك- عن كل نقصٍ وعيبٍ في ذاته وصفاته وأفعاله؛ فظُن به ما ينبغي له من كمال كل تمامٍ وتمام كل كمالٍ في نعوت جماله وصفات جلاله، سبحانه وبحمده.

قال: حسُن كل ما لربي؛ لكن مثلي مستحقٌّ عدله لا فضله.

يا حبيبي؛ وأيُّنا يستحق فضل الله! إنما نحسن الظن برحمته وإن كنا مستحقين عدله بأنها سبقت غضبه، فالمُعَوَّل على الذي من الله لا على الذي منا.

يا حبيبي؛ لئن أدهشك أن مكان قول ربك: “إن رحمتي سبقت غضبي” فوق عرشه -وإن عرشه لَقُبَّة الملكوت- فليُدهشنك زمانُها الذي كتبها الله فيه أضعافًا مضاعفةً، إن الله كتبها قبل خلق الخلق، فكأن تقدير زمانها العُجاب ذلك يقول: قد سبقت رحمة الله منه غضبه من قبل حصول أسباب غضبه منكم. فلئن خوَّف قلبَك عدلُه -وحريٌّ أن تخاف وتخشى وتتقي وترهب- فقل له: يا قلب؛ أبشر بوَجَلِك من ربك، ليس بعد خوف الدنيا إلا أمان الآخرة، وعْد الله.

يا حبيبي؛ ألم تسَع رحمة الله كل شيءٍ! وهل أنت وكلُّ ما اقترفت من سوءٍ -مهما بلغ نوعُه وكَمُّه وكَيْفُه- غيرُ شيءٍ! فناجِ معبودك الأوحد بهذا، قل: اللهم إن حديثك الحقُّ لا ريب فيه أن رحمتك وسِعَت كل شيءٍ، وإني على جميع ما جنيت على نفسي بقلبي وقولي وعملي شيءٌ، وإني لا أدَع شيئًا أغضبتك به إلا اعترفت لك به واستغفرتك منه؛ فبحق قدرتك على كل شيءٍ اغفر لي كل شيءٍ ولا تسألني يوم ألقاك عن شيءٍ، وكذلك فافعل كلما عصيت بغير إصرارٍ.

قال ولدي راجيًا: عظَّمت رجائي في ربي؛ فلأعملن له أعمالًا.

الله السَّتِير والسِّتِّير؛ كِلا ضَبْطَي

الله السَّتِير والسِّتِّير؛ كِلا ضَبْطَي الاسم الإلهي صحيحٌ.

لو أن أحدنا زنى عِيَاذًا بالله ولِيَاذًا، ثم جاء هنا -جُنُبًا من الزنا- يحضُّ الناس على العِفَّة؛ ما شعر به أحدٌ.

ولو أن أحدنا سرق عِيَاذًا بالله ولِيَاذًا، ثم جاء هنا -وما سرقه في ثوبه- يحضُّ الناس على الأمانة؛ ما شعر به أحدٌ.

ولو أن أحدنا تولَّى من الزحف عِيَاذًا بالله ولِيَاذًا، ثم جاء هنا -وقلبه من رُعبه يرجُف- يحضُّ الناس على الثبات والإقدام؛ ما شعر به أحدٌ.

ولو أن أحدنا قتل نفسًا معصومةً عِيَاذًا بالله ولِيَاذًا، ثم جاء هنا -ويداه تقطران دمًا- يحضُّ الناس على المرحمة؛ ما شعر به أحدٌ.

ولو أن أحدنا كان أسيرًا لشهوةٍ عِيَاذًا بالله ولِيَاذًا، ثما جاء هنا -مرهونًا في أغلالها- يحضُّ الناس على الحرية؛ ما شعر به أحدٌ.

ولو أن أحدنا عقَّ والدَيه عِيَاذًا بالله ولِيَاذًا، ثم جاء هنا -ولم يتمضمض من أُفٍّ لكما- يحضُّ الناس على بر الوالدين؛ ما شعر به أحدٌ.

ولو أن أحدنا أشرك بالله الواحد الأحد عِيَاذًا به ولِيَاذًا، ثم جاء هنا -بعظيم إشراكه- يحضُّ الناس على خالص التوحيد؛ ما شعر به أحدٌ.

يرضى الله عن أبي العتاهية قائلًا:

أحسنَ اللهُ بنا ** أنَّ الخطايا لا تفوحْ

فإذا المستورُ فينا ** بينَ ثوبَيْهِ فضُوحْ

ومما حفظته من العلَّامة عبد الباسط هاشم -رحمه الله- عن شاعرٍ أندلسيٍّ:

إذا أُخبرتَ عنْ رجلٍ بريءٍ ** منَ الآفاتِ ظاهرُهُ صحيحُ

فسَلْهُمْ عنهُ هلْ هوَ آدميٌّ ** فإنْ قالوا نعمْ فالقولُ ريحُ

ولكنْ بعضُنا أهلُ استتارٍ ** وعندَ اللهِ أجمعُنا جريحُ

ومنْ إنعامِ خالقِنا علينا ** بأنَّ ذنوبَنا ليستْ تفوحُ

فلوْ فاحتْ لأصبحنا هروبًا ** فُرادَى بالفَلا ما نستريحُ

وضاقَ بكلِّ منتحلٍ صلاحًا ** لِنَتْنِ ذنوبهِ البلدُ الفسيحُ

ومما وعيته طفلًا من شعر القحطاني رحمه الله:

أنتَ الذي أدنيتني وحَبَوْتني ** وهديتني منْ حيرةِ الخذلانِ

وزرعتَ لي بينَ القلوبِ محبةً ** والعطفَ منكَ برحمةٍ وحنانِ

ونشرتَ لي في العالمينَ محاسنًا ** وسترتَ عنْ أبصارهمْ عصياني

وجعلتَ ذِكري في البرِيَّةِ شائعًا ** حتى جعلتَ جميعَهمْ إخواني

واللهِ لوْ علموا قبيحَ سريرتي ** لَأَبَى السلامَ عليَّ منْ يلقاني

ولأعرضوا عني وملُّوا صحبتي ** ولَبُؤْتُ بعدَ قرابةٍ بهوانِ

لكنْ سترتَ معايبي ومثالبي ** وحلُمتَ عنْ سقطي وعنْ طغياني

فلكَ المحامدُ والمدائحُ كلُّها ** بخواطري وجوارحي ولساني

قال سفيان بن عيينة رضي الله عنه: “لولا ستر الله عزَّ وجلَّ؛ ما جالسَنا أحدٌ”، وكان محمد بن واسعٍ -رضي الله عنه- يقول: “لو كان للذنوب رائحةٌ؛ ما جالسني منكم أحدٌ”، وقال عمر بن عبد العزيز لخالد بن صفوانٍ رضي الله عنهما: عِظني وأوجِز، فقال خالدٌ: “يا أمير المؤمنين؛ إن أقوامًا غرَّهم ستر الله عزَّ وجلَّ، وفتنهم حُسن الثناء؛ فلا يغلبن جهلُ غيرك بك عِلْمَك بنفسك، أعاذنا الله وإياك أن نكون بالستر مغرورين، وبثناء الناس مسرورين، وعمَّا افترض الله متخلِّفين مقصِّرين، وإلى الأهواء مائلين”، فبكى عمر، وهذا حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ابنُ القيم -رضي الله عنه- يقول: “فكَم من مستدرَجٍ بالنعم وهو لا يشعر، مفتونٍ بثناء الجُهَّال عليه، مغرورٍ بقضاء الله حوائجَه وستره عليه! وأكثر الخلق عندهم أن هذه الثلاثة علامة السعادة والنجاح؛ ذلك مبلغهم من العلم”.

قال حذيفة العرجي بارك الله به:

يا منْ بسَتركَ خالَني منْ مرَّ بي ** أنْ ليسَ لي في العالمينَ قبيحةْ

لولا جميلُ السَّترِ منكَ لنالني ** في كلِّ شبرٍ لعنةٌ وفضيحةْ

يا هذا؛ ثناء الناس عليك ظنٌّ، وعلمك بنفسك يقينٌ، واليقين لا يزول بالظن.

ما أحلى ستر الله وأجملَه! ما أتمَّه وأكملَه! ما أطولَه وأرسلَه! ما أعمَّه وأشملَه!

ربَّاه سترًا جميلًا لا تكشفه الرياح، وظِلًّا ظليلًا لا تخرقه الرماح، لا إله إلا أنت.

ربَّاه ما كنا لسترك بُرْهَةً مستحقين؛ لكنك السِّتِّير كثيرُ الستر عظيمُه، ربَّنا فلا ترفع سترك فيما بقي من الدنيا وفي الآخرة عمَّن عوَّدتهم حلاوته، وحَقِّ عدلك لو عاملتنا به؛ إن الفضح بعد ال‍ستر مرٌّ مذاقتُه كطعم العلقم، وإنا لا نطيق.

قال: عزمت على معصيةٍ وهيَّأت

قال: عزمت على معصيةٍ وهيَّأت نفسي لها، ثم دخلت الخلاء اضطرارًا قبل مقارفتها، فوجدتُني أتوضأ بغير عزمٍ على الوضوء، فلما خرجت أنساني الله المعصية، وشرح صدري لصلاة ركعتين تطوعًا؛ ما هذا الذي فعل الله بي! لا يُيَسِّرني للعسرى وقد عزمت عليها، ويُيَسِّرني لليسرى ولم أَهُمَّ بها!

قلت: هو الرحمن؛ ربٌّ لا أولى بك منه مُدَبِّرًا سعادَتك، إلهٌ لا أولى بك منه مُيَسِّرًا عبادَتك، غنيٌّ ما يفعل بعذابك وقد خلقك لجنته! كريمٌ يدُه ملأى فلا عجب أن يمنعك عصيانه، وهَّابٌ يعطي بغير استحقاقٍ فلا غَرْوَ أن يمنحك رضوانه، قدُّوسٌ عن كل عيبٍ فأعانك أن تُقَدِّس له فلا يُدَنِّسك البِعاد، ودودٌ إذا أحب أدهش ولا أعظم في حُبِّه من تذليل أسباب قُرْبِه، شكورٌ لعل حسنةً لك سبقت عنده فحال بها بينك وبين سخطه، خبيرٌ يعلم أنك لا تحب معصيته -وإن فعلت- فأقصاك عنها، مجيبٌ لعل دعاءً لك بتوبةٍ وهدًى وقع جوابه الآن، حفيظٌ وخيرُ حفظه لك صَوْنُك عن مُحَادَّته، عزيزٌ شاء منعك الذنبَ فأنساك إياه، قديرٌ شاء عصمتك من السقوط فصرفك عنه، لطيفٌ شاء معافاتك فباعد بين ذرَّات عزمك على الخطيئة فانفسخ، مُقِيتٌ قبض أقوات عقلك عن تدبير معصيتك ولو بسط فيها لعصيت، مقدِّمٌ مؤخِّرٌ قدَّم مراضيه منك فتأخرت مغاضبه عنك، حَيِّيٌّ صرفك عما يستحيي أن يراه منك، سِتِّيرٌ لعلك لو عصيته هذه المرة انكشف سترُك، وليٌّ تولاك بالرأفة فكفَّ عن نفسك فجورها وبالرحمة فألهمها تقواها، فتَّاحٌ فتح لك مُغْلَق الطاعة فانغلق مفتوح المعصية، مؤمِنٌ آمنك من أسباب حسابه، سلامٌ سلَّمك من موجبات عقابه؛ سبحان ربك وتبارك!

يا صديقي؛ إن لكل اسمٍ من أسماء ربك الحسنى أثرًا عظيمًا هنا، ذلكم الله.

الكلام كلامان؛ كلامٌ بموجودٍ، وكلامٌ

الكلام كلامان؛ كلامٌ بموجودٍ، وكلامٌ بمهبودٍ، فالأول الكلام -عَوْذًا بالله- بعلمٍ، والآخَر الكلام برَزْعٍ، ويقال له: الهَرْي، وزعم ابن أبي هَلْكٍ الحشوي المصري في “قاموس اللتِّ والعَجْن” فروقًا بين الهَبْد والرَّزْع والهَرْي، ولا يَسلم خَبْطُه فيه من تكلُّفٍ، ولا مُشَاحَّة في الفَتْي؛ بَيْدَ أن الشيء كلما كبُرت حقيقته كثُرت ألقابه، وليس هو بالمُطَّرِد؛ لكنَّ الأحكام أغلبيةٌ، والإطلاق لا يفيد الاستغراق، وقد عزَّ خُلُوُّ موجودٍ من مهبودٍ، ومهبودٍ من موجودٍ؛ فإن المتكلم بالموجود ليس بمعصومٍ؛ كيف هو في زمانٍ لا أسهلَ فيه من الهَبْد! لكنْ مُقِلٌّ من المهبود في الموجود ومستكثرٌ، ولولا حظُّ المهبود من الموجود ما راج رَوَاجَه؛ فإن المهبود المَحْض لا يكاد يروج في الخَلق، وليس إنكار أُولي العلم على أُولي الهَبْد بأقلَّ من إنكار أُولي الهَبْد عليهم؛ بل الهبَّادون أكثر إنكارًا وأشد؛ ذلك بأنه لو قُسِمَت جُرأة الواحد منهم على أمةٍ من عالِمي الزمان المدهولين لوَسِعَتهم، واستأسد الهَبْد حين استنوق العلم؛ إلى الله نشكو عجز العالِمين وثقة الهابدين.

واغوثاه رباه! سلِّم فقراءك في

واغوثاه رباه! سلِّم فقراءك في المغرب تسليمًا.

يا من ليس كمثله شيءٌ؛ الطف بهم لطفًا ليس كمثله لطفٌ.

ربنا اجعل موتاهم شهداء كافةً، وارحم بأوسع رحمتك فاقدهم والمفقود.

لولا الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لتصدعت أكبادنا وانشقت المرائر، إي والله عباد الله، لا عاصم للقلوب من الطيران ولا حافظ للعقول من الطيش إلا الإيمان بالله واليوم الآخر؛ فأما الإيمان بالله فاعتقادنا أنه المولى وبعباده أولى، مهما بدا البلاء للناس مبينًا فإن القانون فيه (لا يُستدل بظاهر البلاء على باطنه)، فإنا نحلف بالله -ثقةً بأسمائه وصفاته، ويقينًا في أفعاله وآياته- أن ما خفي في هذا الكرب العظيم من آثار رأفته ورحمته وبره ولطفه وإحسانه أعظم مما بدا، وإن من أسماء ربنا الواجد، ومن معانيه أنه يجد ما أراد، كما قال: “وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ”، وقال: “إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ”، فما شاء الله وصوله للقوم أحياءً وأمواتًا من خيرٍ وصلهم لا راد له، وأما الإيمان باليوم الآخر فاعتقادنا أنه يوم الجزاء الحق، وأن ما قبله ليس شيئًا في جنبه، مثوبته المثوبة وعقوبته العقوبة، وكأني بالقوم يوم القيامة قد جعل ربهم مقامهم بين غفرانه ورضوانه، قال من لا ينطق عن الهوى وما ضل وما غوى: “يود أهل العافية يوم القيامة حين يُعطى أهل البلاء الثواب؛ لو أن جلودهم قُرضت في الدنيا بالمقاريض”، صلَّى الله على صاحب هذا الحرف العاطف الحاني وسلَّم، والحمد لعليمٍ حكيمٍ.

أيُّما رجلٍ أغرته امرأةٌ بنفسها

أيُّما رجلٍ أغرته امرأةٌ بنفسها في واقعٍ أو مواقع بما يُعَلِّقه بها من قولٍ أو عملٍ إصدارًا أو إيرادًا، فصدَّق أنها تحبه حقًّا، ثم راح يجازيها وصلًا بوصلٍ في غير حلالٍ؛ فقد كذَّب الله في شرعه وقدَره من حيث لم يخطر ذلك على قلبه، وكيف يكونان متحابَّين وإن كلًّا ليُعَرِّض الآخر لسخط الرب وعقابه دنيا وآخرة!

إنما هي شهوةٌ حقيرةٌ؛ لكنها ليست كشهوة المأكل والمشرب وما لا يتوقَّف من الشهوات في إنفاذه على إنسانٍ آخر؛ لذلك يتفنَّن كلٌّ منهما في إغواء صاحبه حتى يقضي به وطرًا مضت سنة الله فيه ألا يُقضى بإفرادٍ، والحِرْز بالله.

يا توأم ديني؛ إنما الحب طرقتان؛ طرقةٌ على باب قلبك، وطرقةٌ على باب أبيها، قالها ذو حكمةٍ، فإن كنت صالحًا لها وكانت لك كذلك؛ فاستفتح على الله بيت النكاح آتِيًا بابه الأوحد، ذاكرًا أنه ليس بعد ميل قلب رجلٍ إلى قلب امرأةٍ إلا هرولة كل جارحةٍ منهما إلى أختها في نكاحٍ أو سِفاحٍ؛ فناكحٌ أنت أم مسافحٌ! ألا إن سِفاح القلوب أشنع عند الله من سِفاح الجسوم! بالرحمن عوذتكما.

ما إسرافُك في نومٍ أو

ما إسرافُك في نومٍ أو لهوٍ بدواءٍ لاغتمامك؛ بل يزيدان الداء عِلَّةً والطين بِلَّةً.

التحيُّز للآخرة والصبر والتوكل والدعاء وحُسن الظن بالله؛ أدويةٌ مهجورةٌ.

تنفع العزلةُ كلَّ الناس بعض الوقت؛ لكنها تضرُّ كلَّ الناس كلَّ الوقت.

السجود مَشْفًى، والقراءة سَفَرٌ، والبِرُّ بهجةٌ؛ تيقَّن هذا كلَّه لا تجرِّب.

ليست الكآبة مُرادةً لذاتها؛ من جاءك بالفرح يسعى فتقبَّل منه.

قُتِلت قبيلة الأحزان! لَوَدِدت إهراق دمائها؛ إن رزاياها لشتى.

الحزن في القرآن منهيٌّ عنه أو منفيٌّ؛ فأنَّى تخضع له!

لا مناص لعبدٍ من حزنٍ؛ فاجعله على كروب الأمة.

الحزن يغتال فؤادك، وما ينفعك سائرُك بعده!

واتْل على حزنك سورة يوسف؛ يُذْهِبه الإله.

ولِجَنَّاتٍ لا تُبْقِي من حزنٍ ولا تذر؛ فاعمل.

حَسْب من ذاق يومًا مرارة حزنٍ نفذ إلى فؤاده من شُبَّاكٍ فيه كان مفتوحًا؛ أن تكون وظيفته إِيصَادَ شبابيكه على أفئدة المسلمين سائرَ حياته، أما المتعلِّلون بأحزانهم في إهمال الحَزانى فمحرومون، إن فاقد الخير أولى بإعطائه لو كان نبيلًا أريبًا، وهل تكون أكرم على ذوي الأحزان من كرم ربك عليك! ليجعلن جزاءك من جنس عملك، فيَلْطُف بك في أحزانك، وعد الله لا يخلف الله الميعاد.

يا حبيبي؛ رابحٌ رابحٌ أنت

يا حبيبي؛ رابحٌ رابحٌ أنت بالدعاء وإن رأيت أنه لم يُستجَب لك.

الدعاء العبادة التي ما خُلِقْت إلا لأجلها؛ بل هو خير العبادة وأعلاها.

الدعاء توحيد ربوبيةٍ؛ فلولا اعتقادك أحَدِيَّة الله في خلقه وحُكمه؛ ما دعوته.

الدعاء توحيد أسماءٍ وصفاتٍ؛ فلولا اعتقادك تفرُّد الله بالأسماء الحسنى والصفات المُثلى؛ ما دعوته، ولولا اعتقادك واحِدِيَّته في صفات الكمال وكمال الصفات؛ ما دعوته، ولولا اعتقادك في أسمائه وصفاته ما يليق بها وينبغي لها بين تعطيل المعطِّلة وتجسيم المجسِّمة ربًّا ليس كمثله شيءٌ فيها؛ ما دعوته.

الدعاء الإيمان الجامع بالأسماء والصفات مجموعةً غير مفرَّقةٍ؛ فإنك لا تدعو الله بشيءٍ إلا وقلبك مُوثَقٌ مشدودٌ على الإيمان بحياة ربك وقيُّوميَّته، ورأفته ورحمته، وقوته وقدرته، وعلمه وخبرته، وسمعه وبصره، وعزته وحكمته، وقهره وجبره وغلبته، ومُلكه ومالكيته، وغناه وبرِّه، وحفظه وحسابه وإقاتته، وتوليه وولايته، ووده ولطفه وإحسانه، وكرمه وجوده ومجده، وفتحه وقبوله وإجابته، وعفوه وحلمه ومغفرته، وسعته وإحاطته، وما لا ينتهي من أسماء ربك وصفاته.

الدعاء توحيد ألوهيةٍ؛ فلولا اعتقادك استئثار الله باستحقاق التعبد؛ ما دعوته.

الدعاء اتباعٌ للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلولا تعبدك في قضاء الحاجة بما شرع هو؛ ما عرفت من تدعو، ولا كيف تدعو، ولا بِمَ تدعو.

الدعاء إسلامٌ؛ فهو خضوع قلبك وانقياد جوارحك في اللجأ إلى ربك.

الدعاء إيمانٌ بالله؛ فلولا إقرارك بالله ربًّا؛ ما توجه قلبك ولسانك إليه بالطلب.

الدعاء إيمان بالملائكة؛ فلولا إقرارك بوجودهم وما يفعل الله بهم في استجابات الدعاء؛ ما دعوته، حضرك هذا في الدعاء أم لم يحضرك.

الدعاء إيمانٌ بالكتب؛ فلولا تصديقك ما أمر الله في كتابه من دعائه؛ ما دعوته.

الدعاء إيمانٌ بالرسل؛ فلولا تصديقك الباطن أن الرسل هم أولى العالمين بالدعاء استمساكًا به وحضًّا عليه؛ ما دعوت الله مثلهم، متأسِّيًا بهم.

الدعاء إيمانٌ باليوم الآخر؛ فإنك إذ تدعو الله تعتقد أن استجابة دعائك قد تؤخَّر إلى يوم القيامة، وقد يَعْظُم إيمانك فتؤثر ذلك، ومع هذا لا تكف عن الدعاء.

الدعاء إيمانٌ بالقدَر خيره وشره؛ فلولا أنك تؤمن بخلق الله كلَّ شيءٍ، وعلمه بكل شيءٍ، وكتابته كلَّ شيءٍ، ومشيئته لكل شيءٍ؛ ما دعوته.

الدعاء إحسانٌ؛ فلولا شهودك جلال الله وجماله الذَين ترجو بهما رأفته التي يُدْفع بها الضر ورحمته التي يُجْلب بها النفع -كأنك تراه- ما دعوته.

الدعاء حبٌّ؛ فلولا محبتك الله ما دعوته، وهل يُقصد اختيارًا إلا المحبوب!

الدعاء صدقٌ؛ فلولا اجتماع قلبك على مرادك من الله؛ ما دعوته.

الدعاء إخلاصٌ؛ فلولا إفرادك الله بقصد التوجه؛ ما دعوته.

الدعاء خوفٌ؛ فلولا رهبتك حصول شيءٍ أو عدم حصوله -مما ليس بيد أحدٍ في الوجود كله إلا الله وحده- ما دعوته.

الدعاء رجاءٌ؛ فلولا طمعك في استجابة الله تضرعك إليه؛ ما دعوته.

الدعاء ذكرٌ؛ بالقلب فلولا تذكُّر القلب ربه ما حمل اللسان على الدعاء، وإن أصل الذكر بالقلب، ولئن كان الدعاء باللسان مجرَّدًا؛ فكم يَجْتَرُّ هذا القلب!

الدعاء حمدٌ وشكرٌ ومدحٌ وثناءٌ؛ في نفسه بدلالة التضمن، وبما قد يشتمل عليه.

الدعاء إيثارٌ؛ فلولا اختيارك اللهَ فوق كل مرجوٍّ من الخلائق؛ ما دعوته.

الدعاء تعظيمٌ وإجلالٌ وإكبارٌ؛ فلولا أنك ترى ربك الأعظم الأجلَّ الأكبر؛ ما دعوته.

الدعاء تسبيحٌ وتقديسٌ؛ فلولا اعتقادك تنزُّه الرب عن كل عيبٍ متصلٍ وشريكٍ منفصلٍ؛ ما دعوته، وهل يُخَصٌّ بالسؤال ذو نقصٍ في نفسه مفتقرٌ إلى غيره!

الدعاء تفويضٌ وتوكلٌ؛ فلولا أن قلبك غير معتمدٍ على الأسباب ولا راكنٍ إليها -مهما أخذَت الجوارح بها لا تفرِّط فيها- ما دعوت مسبِّبها.

الدعاء ثقةٌ ويقينٌ؛ فلولا قيامهما بقلبك في ربك وما في يده؛ ما دعوته.

الدعاء هجرةٌ وفرارٌ؛ فلولا شهادتك على سكون الأسباب إلا أن يحركها بارئها؛ ما تركت الاستناد عليها بكُلِّيتك ودعوت الله.

الدعاء صبرٌ؛ فلولا أنك مانعٌ نفسك من السخط على المقدور؛ ما دعوت المقدِّر.

الدعاء افتقارٌ؛ فلولا شهودك فقر نفسك وضعفها وجهلها وذلَّها؛ ما دعوت الله.

الدعاء ذلٌّ واستكانةٌ وإخباتٌ وانقيادٌ وتسليمٌ، وما حقيقة العبادة إلا هذا جميعًا.

الدعاء أنسٌ بالله؛ فلولا حاجتك إلى تحبُّبه إليك وتقرُّبه منك بما تريد؛ ما دعوته.

الدعاء إيقاظٌ للقلب؛ فلولا إنعاشه بإحواجه إلى الله واضطراره إليه؛ بقي جامدًا خامدًا هامدًا، وإنما انتفاع اللسان والجوارح بالقلب إذا كان حيًّا.

الدعاء تزكيةٌ وتربيةٌ؛ فإنه بنفسه -وإن لم تقصد ذلك منه- مطهرٌ للنفس من عُجْبها المحبِط للأعمال وكِبْرها المفسِد للأحوال، ومؤدِّبٌ لها بأضدادها.

الدعاء تشبهٌ بالملائكة والنبيين والصِّدِّيقين؛ فإن سبيلهم الباطنة والظاهرة على كل أحوالهم وجميع أحيانهم؛ هي دعاء الله والتوسل إليه.

الدعاء تعريفٌ بنفسك في السماء؛ فإنك لا تزال تدعو الله وتُلِحُّ في الدعاء؛ حتى يألف صوتَك أهلُ السماء، وإن لم يسمعك سامعٌ من أهل الأرض.

ألم أقل لك: رابحٌ رابحٌ أنت بالدعاء وإن رأيت أنه لم يُستجَب لك!

“مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ”؛ واهًا!

“مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ”؛ واهًا!

“يدخل الجنةَ أقوامٌ أفئدتهم مثل أفئدة الطير”.

“لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير”.

ليت ربي يدخلني الجنة برحمته، ثم يُدنيني من الطير ويُدنيها مني؛ إني أهواها.

أحب الطير كل الطير؛ مسخراتٍ في جوِّ السماء صافَّاتٍ ويقبضْن، وراكضاتٍ على أديم الأرض زاهياتٍ ويفخرْن، أحب أفئدتها الناعمة رباعية الحجرات، وأجنحتها مكسُوَّةً بالرِّياش بديعاتٍ، ومناقيرها ذاتَ أنواعٍ مزيناتٍ وغير مزيناتٍ، لَيْلِيَّها الرَّوامسَ ونَهَارِيَّها والشَّفَقِيَّات، أحب طنَّاناتها ياقوتيات الحناجر أصغرَها، وذوات الرقاب الحمراء من النَّعام أكبرَها، أحب طاعمات الفواكه وآكلات الجِيَف، أحب برِّيَّها وبحَريَّها، وحْشِيَّها وأليفها، مُهابَها وهَيَّابها، عفيفها وخليعها، نشيطها وخاملها، أبيضها وأسودها، متطفلات الأعشاش وغير المتطفلات، أحب أصواتها متفاوتات الإطراب لا كريه فيها لديَّ، أحب أوكارها ما رقَّ منها وما غلُظ، أحب خلائقها ما ساء منها وما حسُن، أحب طرائقها ما لان منها وما خشُن، ما تطوَّرت عن ديناصوراتٍ كذَب الخرَّاصون ولو حلفوا؛ بل خلقها وبرأها وصوَّرها الخالق البارئ المصوِّر بائنةً عما سواها، إلا فواسق الطير التي جاءت شريعة الرب الخبير الحكيم بقتلها؛ فتلك أجفوها جفائي كل فاسقٍ.

لا أحصي كم رأيتُني في المنام أطير؛ حتى لَأطير فوق بحارٍ طويلةٍ لا أبالي!

ألا إن أحب الطير إلي مولاي هدهد سليمان شيخُ موحِّدي الأطيار، وطيرًا شَرَكَت أباه داود تسبيح السُّبوح القدُّوس “مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ”، وطيرًا مجَّدها الله بالانتصار لبيته الحرام أبابيل، ترمي أبرهة وجنوده بحجارٍةٍ من سِجِّيلٍ، وطيرًا خُضْرًا في أجوافها أرواح السادة الشهداء لها قناديل معلقةٌ بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، وطيرًا اجتباها الله لأصحاب الجِنان في جواره لحمًا يَطعمونه مما يشتهون، والدِّيَكة يوقظ الله بصِياحها المصطفَين من عباده للمصطفى من شعائره، ويُشهدها ملائكتَه فتصيح فنسأله من فضله الكبير، وحمام مكة الوادع، ثم سائر الحمام، والعصافير بأنواعها وألوانها، والطواويس وكل باهر الجمال أشْبَهَه، وطيورًا أعرف صورها ولا أعلم أسماءها الله يعلمها ومن علَّم من الناس، أحب الطير وطار ويطير وطيرانًا ومطيرًا؛ إنه عشق الحرية والانعتاق من وراء ذلك جميعًا.

سبحان بديع الخلائق أجمل الجُمَلاء! ما حقُّك المبارزة بالقبائح؛ فاغفر قادرًا علينا.