يا حبيبي؛ رابحٌ رابحٌ أنت

يا حبيبي؛ رابحٌ رابحٌ أنت بالدعاء وإن رأيت أنه لم يُستجَب لك.

الدعاء العبادة التي ما خُلِقْت إلا لأجلها؛ بل هو خير العبادة وأوفاها.

الدعاء توحيد ربوبيةٍ؛ فلولا اعتقادك أحَدِيَّة الله في خلقه وحُكمه؛ ما دعوته.

الدعاء توحيد أسماءٍ وصفاتٍ؛ فلولا اعتقادك تفرُّد الله بالأسماء الحسنى والصفات العلا؛ ما دعوته، ولولا اعتقادك واحِدِيَّته في صفات الكمال وكمال الصفات؛ ما دعوته، ولولا اعتقادك في أسمائه وصفاته ما يليق بها وينبغي لها بغير تعطيلٍ ولا تجسيمٍ ربًّا ليس كمثله شيءٌ فيها؛ ما دعوته.

الدعاء الإيمان الجامع بالأسماء والصفات مجموعةً غير مفرَّقةٍ؛ فإنك لا تدعو الله بشيءٍ إلا وقلبك مُوثَقٌ مربوطٌ على الإيمان بحياة ربك وقيُّوميَّته، ورأفته ورحمته، وقوته وقدرته، وعلمه وخبرته، وسمعه وبصره، وعزته وحكمته، وقهره وغلبته، ومُلكه ومالكيته، وغناه وبرِّه، وحفظه وحسابه وإقاتته، وتوليه وولايته، ووده ولطفه وإحسانه، وكرمه وجوده ومجده، وفتحه وقبوله وإجابته، وعفوه وحلمه ومغفرته، وسعته وإحاطته، وما لا ينتهي من أسماء ربك وصفاته.

الدعاء توحيد ألوهيةٍ؛ فلولا اعتقادك استئثار الله باستحقاق التعبد؛ ما دعوته.

الدعاء اتباعٌ للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلولا تعبدك في قضاء الحاجة بما شرع هو؛ ما عرفت من تدعو، ولا كيف تدعو، ولا بِمَ تدعو.

الدعاء إسلامٌ؛ فهو خضوع قلبك وانقياد جوارحك في اللجأ إلى ربك.

الدعاء إيمانٌ بالله؛ فلولا إقرارك بالله ربًّا؛ ما توجه قلبك ولسانك إليه بالطلب.

الدعاء إيمان بالملائكة؛ فلولا إقرارك بوجودهم وما يفعل الله بهم في استجابات الدعاء؛ ما دعوته، حضرك هذا في الدعاء أم لم يحضرك.

الدعاء إيمانٌ بالكتب؛ فلولا تصديقك ما أمر الله في كتابه من دعائه؛ ما دعوته.

الدعاء إيمانٌ بالرسل؛ فلولا تصديقك الباطن أن الرسل هم أولى العالمين بالدعاء استمساكًا به وحضًّا عليه؛ ما دعوت الله مثلهم، متأسِّيًا بهم.

الدعاء إيمانٌ باليوم الآخر؛ فإنك إذ تدعو الله تعتقد أن استجابة دعائك قد تؤخَّر إلى يوم القيامة، وقد يَعْظُم إيمانك فتؤثر ذلك، ومع هذا لا تكف عن الدعاء.

الدعاء إيمانٌ بالقدَر خيره وشره؛ فلولا أنك تؤمن بخلق الله كلَّ شيءٍ، وعلمه بكل شيءٍ، وكتابته كلَّ شيءٍ، ومشيئته لكل شيءٍ؛ ما دعوته.

الدعاء إحسانٌ؛ فلولا شهودك جلال الله وجماله الذَين ترجو بهما رأفته التي يُدْفع بها الضر ورحمته التي يُجْلب بها النفع (كأنك تراه)؛ ما دعوته.

الدعاء صدقٌ؛ فلولا اجتماع قلبك على مرادك من الله؛ ما دعوته.

الدعاء إخلاصٌ؛ فلولا إفرادك الله بقصد التوجه؛ ما دعوته.

الدعاء حبٌّ؛ فلولا محبتك الله ما دعوته، وهل يُقصد اختيارًا إلا المحبوب!

الدعاء خوفٌ؛ فلولا رهبتك حصول شيءٍ أو عدم حصوله (مما ليس بيد أحدٍ في الوجود كله إلا الله وحده)؛ ما دعوته.

الدعاء رجاءٌ؛ فلولا طمعك في استجابة الله تضرعك إليه؛ ما دعوته.

الدعاء ذكرٌ؛ بالقلب فلولا تذكُّر القلب ربه ما حمل اللسان على الدعاء، وإن أصل الذكر بالقلب، ولئن كان الدعاء باللسان مجرَّدًا؛ فكم يَجْتَرُّ هذا القلب!

الدعاء حمدٌ وشكرٌ ومدحٌ وثناءٌ؛ في نفسه بدلالة التضمن، وبما قد يشتمل عليه.

الدعاء إيثارٌ؛ فلولا اختيارك الله فوق كل مرجوٍّ من الخلائق؛ ما دعوته.

الدعاء تعظيمٌ وإجلالٌ وإكبارٌ؛ فلولا أنك ترى ربك الأعظم الأجلَّ الأكبر؛ ما دعوته.

الدعاء تسبيحٌ وتقديسٌ؛ فلولا اعتقادك تنزُّه الرب عن كل عيبٍ متصلٍ وشريكٍ منفصلٍ؛ ما دعوته، وهل يُخَصٌّ بالسؤال ذو نقصٍ في نفسه مفتقرٌ إلى غيره!

الدعاء تفويضٌ وتوكلٌ؛ فلولا أن قلبك غير معتمدٍ على الأسباب ولا راكنٍ إليها (مهما أخذَت الجوارح بها لا تفرِّط فيها)؛ ما دعوت مسبِّبها.

الدعاء ثقةٌ ويقينٌ؛ فلولا قيامهما بقلبك في ربك وما في يده؛ ما دعوته.

الدعاء هجرةٌ وفرارٌ؛ فلولا شهادتك على سكون الأسباب إلا أن يحركها بارئها؛ ما تركت الاستناد عليها بكُلِّيتك ودعوت الله.

الدعاء صبرٌ؛ فلولا منعك نفسك السخطَ على القدَر؛ ما دعوت المقدِّر.

الدعاء افتقارٌ؛ فلولا شهودك فقر نفسك وضعفها وجهلها وذلَّها؛ ما دعوت الله.

الدعاء ذلٌّ واستكانةٌ وإخباتٌ وانقيادٌ وتسليمٌ، وما حقيقة العبادة إلا هذا جميعًا.

الدعاء أنسٌ بالله؛ فلولا حاجتك إلى تحبُّبِه إليك وتقرُّبِه منك بما تريد؛ ما دعوته.

الدعاء إيقاظٌ للقلب؛ فلولا إنعاشه بإحواجه إلى الله واضطراره إليه؛ بقي جامدًا خامدًا هامدًا، وإنما انتفاع اللسان والجوارح بالقلب إذا كان حيًّا.

الدعاء تزكيةٌ وتربيةٌ؛ فإنه بنفسه -وإن لم تقصد ذلك منه- مطهِّرٌ للنفس من عُجْبها المحبِط للأعمال وكِبْرها المفسِد للأحوال، ومؤدِّبٌ لها بأضدادها.

الدعاء تشبهٌ بالملائكة والنبيين والصِّدِّيقين؛ فإن سبيلهم الباطنة والظاهرة على كل أحوالهم وجميع أحيانهم؛ هي دعاء الله والتوسل إليه.

الدعاء تعريفٌ بنفسك في السماء؛ فإنك لا تزال تدعو الله وتُلِحُّ في الدعاء؛ حتى يألف صوتَك أهلُ السماء، وإن لم يسمعك سامعٌ من أهل الأرض.

ألم أقل لك: رابحٌ رابحٌ أنت بالدعاء وإن رأيت أنه لم يُستجَب لك!

صباحكم وحين تمسون وعشيًّا وحين

صباحكم وحين تمسون وعشيًّا وحين تُظْهِرون: لا إله إلا الله.

لا إله إلا الله: ما نُبِّئ الأنبياء من آدمِهم إلى محمَّدِهم؛ إلا بها.

لا إله إلا الله: ما أُنزلت التوراة والزبور والإنجيل والقرآن؛ إلا لها.

لا إله إلا الله: أولُ كل أمرٍ وثِنَاه، وأوسطُه ومنتهاه.

لا إله إلا الله: أَرْقِي بها أسماعكم وأبصاركم وأفئدتكم.

لا إله إلا الله: أستحفظ الله بها ما بين أيديكم وما خلفكم.

لا إله إلا الله: أستودع الله بها عقائدكم وشرائعكم وآدابكم.

لا إله إلا الله: الكون من عرشه إلى فرشه لؤلؤٌ في سلكها منظومٌ.

لا إله إلا الله: ما لشكاياتنا الثلاثة (العيوبِ، والذنوبِ، والكروبِ)؛ إلا هي.

الله أكبر بلا إله إلا الله.

الحمد لله بلا إله إلا الله.

سبحان الله بلا إله إلا الله.

الصلاة والسلام على نبينا وكل نبيٍّ ورسولٍ وملَكٍ؛ بلا إله إلا الله.

ويح من لا يعتقد لا إله إلا الله دينًا.

خاب من لم تهْدِه لا إله إلا الله عِلمًا.

خسر من لم تسدِّده لا إله إلا الله عملًا.

ضلَّ من فقد لا إله إلا الله نورًا يمشي به في الناس.

لا إله إلا الله: لا مغيث للَهَفات النفوس سواها.

لا إله إلا الله: لا هادي من حَيْرات العقول عداها.

لا إله إلا الله: لا مطيب للأفواه مِثلُها.

لا إله إلا الله: لا مطبِّب للجوارح عِدلُها.

لا إله إلا الله: رَوح الأرواح في الدنيا، وفي الآخرة، وفي البرازخ بينهما.

لا إله إلا الله: تعس القصوريون والقبوريون؛ عَمُوا عن جوهرها وصَمُّوا.

الحسنى، واليسرى، وكلمة التقوى، والعروة الوثقى، ودعوة الحق، وشهادة الحق، والكَلِم الطيب، والقول الثابت، والطيب من القول، والعهد؛ هذي نعوت لا إله إلا الله الماجدة في كتاب لا إله إلا الله المجيد.

لا إله إلا الله: وسيلة الوسائل، وغاية الغايات.

مجرَّدةٌ حروفها لا نَقط فيها؛ فإنها لتجريد توحيد العبيد.

جوفيةٌ لا شفهيَّ فيها؛ فإنها لا تؤمِّن من الخوف إلا خالصةً من الجوف.

لا إله إلا الله: المُعَرِّفة بالله؛ نفسِه وأسمائه وصفاته وأقواله وأفعاله.

لا إله إلا الله: الطائشة بسِجِلَّات السيئات، لا تطيش إلا ببركاتها.

لا إله إلا الله: المُثَقِّلة الموازين غدًا، لا تَثقل إلا ببركاتها.

أبو ذرٍّ: علِّمني يا رسول الله شيئًا يقرِّبني من الجنة، ويباعدني من النار.

نبي الله ﷺ: “إذا عملت سيئةً؛ فأتبِعها حسنةً”.

أبو ذرٍّ: مِن الحسنات لا إله إلا الله؟

رسول الله ﷺ: “هي أحسن الحسنات”.

بَخٍ بَخٍ أبا ذرٍّ! جلَّ سؤالك إذ كان في ذلك الجواب الأجلِّ سببًا.

لا إله إلا الله: لولاها ما فعل المأمورَ فاعلٌ، ولا ترك المنهيَّ تاركٌ، ولا صبر على البلايا صابرٌ، ولا شكر الأنعُم شاكرٌ.

لا إله إلا الله: لولاها ما ثبت على الصراط في الدنيا والآخرة ثابتٌ.

لا إله إلا الله: قرَّة عيون المستمسكين بعقائد الإسلام وشرائعه وآدابه؛ كلما اشتدت غُرُباتهم، وعظُمت كُرُباتهم، فلولاها ما هان عليهم شيءٌ من هذا.

لا إله إلا الله: بها يستعذب الموحدون العذاب.

لا إله إلا الله: مَعْقِد الولاء والبراء إلى يوم القيامة، لا يُعقدان إلا عليها.

لا إله إلا الله: رايتنا المَفدية في الجهاد، وظِلُّنا الظليل يوم التناد.

لا إله إلا الله: ما سكن في الكون ساكنٌ، وما تحرك فيه متحركٌ.

لا إله إلا الله: مدارج السالكين، ومعارج الواصلين.

لا إله إلا الله: كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة.

لا إله إلا الله: معنى الكتاب المَتْلُوِّ المسطور، ومبنى الكتاب المَجْلُوِّ المنظور.

لا إله إلا الله: ما عادى الشيطانُ والطواغيت والجاهلية مِثلَها.

لا إله إلا الله: عِلم الجاهل، واقتدار العاجز، شفاء العليل، وجبر الكسير.

لا إله إلا الله؛ ما لا إله إلا الله!

لا إله: وضعُ آصار الأوثان وأغلال الطواغيت عن معتقديها.

إلا الله: كمال حرِّيتنا بتمام عبوديتنا للأحد الصمد الحي القيوم.

لا إله: نفيٌ لجميع المعبودات؛ لا لوجودها فما أكثرها! بل أن تكون مستحقةً لشيءٍ من العبادة في نفسها، ثم نفي القلب أن يكون عابدًا إياها بشيءٍ.

إلا الله: إثبات استحقاق الرب الواحد الأحد للعبادة كلها اعتقادًا، ثم إثبات جميع عبادات القلب واللسان والجوارح له وحده عملًا.

لا إله إلا الله: لا معبود بحقٍّ إلا الله.

لا إله إلا الله: أليقُ أفعال العبد بها: أشهد؛ فإن معنى الشهادة متضمنٌ حُكم الحِس وحُكم العقل وحُكم تصديق الوحي الصادق.

لا إله إلا الله: من وحد بها المعبود المرسِل ﷻ في العبادة؛ فقد وحد بأختها (محمدٌ رسول الله) المتبوع المرسَل ﷺ في الاتباع.

لا إله إلا الله: حقُّ الحق، ونظامُ الخلق.

لا إله إلا الله: لا بوَّابة سواها في الدنيا لدخول الإسلام، وفي الآخرة للخلود في دار السلام، ولا نظر بغيرها إلى وجه ذي الجلال والإكرام.

لا إله إلا الله: لولاها ما أوجد واجبُ الوجود شيئًا من الوجود.

لا إله إلا الله: لأجلها قُدِر الكون وما فيه، وشُرِع الدين وما فيه.

لا إله إلا الله: ما غشَت نارًا في الخلق؛ إلا جعلتها بردًا وسلامًا.

لا إله إلا الله: حاكميةً، وحُكمًا، وتحاكمًا.

لا إله إلا الله: إيمانًا، ونُسُكًا، وأخلاقًا، ودعوةً، وحِسْبةً، وجهادًا.

لا إله إلا الله: حياةً، وموتًا، وبعثًا، وحسابًا يسيرًا.

لا إله إلا الله: شروطها: علمٌ، ويقينٌ، وقبولٌ، وانقيادٌ، وصدقٌ، وإخلاصٌ، وحبُّ.

لا إله إلا الله: شرط غفران الذنوب، وقبول الحسنات، ورفعة الدرجات.

لا إله إلا الله: خير ما قال الملائكة، والنبيون، وأولياؤهم من الإنس والجن.

لا إله إلا الله: إنْ من شيءٍ في السماء والأرض وما بينهما؛ إلا مسبِّحٌ بها.

لا إله إلا الله: العاصمة دماء معتقديها، المحرِّمة على النار خلودهم فيها.

لا إله إلا الله: من أصغر ذرَّةٍ فما دونها، إلى أكبر مجرَّةٍ فما فوقها، من مبدأ إلى الخلق إلى أبده، ما عقل منه وما لم يعقل، في عالمَي الغيب والشهادة، ما كان إيجادُه ولا إعدادُه ولا إمدادُه ولا إسعادُه؛ إلا بها ولها.

لا إله إلا الله: لولا رسول الله ما عرفناها، ولا اعتقدناها، ولا لهجت بها ألسنتنا، ولا سعت لها أركاننا، ولا طابت بها حياتنا؛ فصلِّ اللهم عليه وسلِّم.

ألا إن أوفى الوفاء لشهادة لا إله إلا الله؛ شهادةٌ في سبيلها؛ فاللهم اللهم.

دعني وشأني، أنت لا تعرفني؛

دعني وشأني، أنت لا تعرفني؛ أنا لائقٌ بالذنوب، والذنوب لائقةٌ بي.

يا حبيبي؛ لا والله لا أدعك، لا أنت لائقٌ بالذنوب، ولا الذنوب لائقةٌ بك.

لئن لم تجتنب الخطايا لأن اجتنابها حقٌّ لله؛ فاجتنبها لأن اجتنابها حقٌّ لك.

وقل لسيئةٍ عملتها ضعيفًا: ستبقين أجنبيةً عني، لا أنا منكِ ولا أنتِ مني.

تأمل مقالات الأنبياء وأتباعهم، ثم قل مثل قولهم: ما كان لي عصيان ربي.

قال محمدٌ ﷺ: “مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي”.

وقال عيسى ﷺ: “مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍَ”.

وقال يوسف ﷺ عن نفسه وآبائه: “مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ”.

وقال شعيبٌ ﷺ والمؤمنون به: “وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَا”.

وقال أصحاب محمدٍ ﷺ ورضي عنهم: “مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا”.

ويوم القيامة يقول من عُبد من المعبودات في الدنيا على غير رضاها: “مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ”.

وهذا الله ﷻ يقول عن أنبيائه جميعًا: “وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ”.

ويقول عن رسوله ﷺ ومن آمن به واقتدى: “مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوآ أُوْلِي قُرْبَى”.

ويقول عن أصحاب نبيه ﷺ ورضي عنهم: “مَا كَانَ لِأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ ٱلْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ”.

ويقول عن المؤمنين به حقًّا: “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً”.

يا حبيبي؛ مهما حدَّث الشيطانُ نفسَك أنها للآثام أهلٌ؛ فحدِّثها حديث الرحمن: ما كان لي أن أترك ما أمرني ربي به وإن تركته، ما ينبغي لي أن أفعل ما نهاني إلهي عنه وإن فعلته، ليست السيئات مني مهما قارفت منها، لم ينشرح للمعصية صدري، فإن انشرح صدري فلم يطمئن بها قبلي، فإن اطمأن قلبي فلم يسكن إليها عقلي، فإن سكن عقلي فسكونٌ زائفٌ عارضٌ أستجير ربي منه، أنا لطاعة ربي وطاعة ربي لي، لها خُلِقْت ولي شُرِعَت، لئن بعُدُت لأقتربن، ولئن فرَّطت لأستدركن، ربي توابٌ يتوب علي، وأنا توابٌ أتوب إلى ربي.

قال: أُغلب كل حينٍ على

قال: أُغلب كل حينٍ على شهوةٍ محرمةٍ، ثم أستغفر وأتوب، ثم أعود إليها، حتى يئست من نفسي، وأيقنت أني من المُصِرِّين على الذنوب؛ فما تقول؟

يا حبيبي؛ لا يستوي عند الله تكرار الذنب، والإصرار عليه، واستحلاله.

تكرار الذنب مع التوبة منه كل مرةٍ؛ ليس إصرارًا عليه.

الإصرار عليه: تكراره مرةً بعد مرةٍ بغير توبةٍ بينهن.

استحلاله: اعتقاد حِلِّيَّته إذا كان تحريمه قطعيًّا.

من كرر ذنبه وهو يستغفر الله ويتوب منه كل مرةٍ؛ فهو وليٌّ لله.

من أصر على الذنب يكرره مرةً بعد مرةٍ بغير توبةٍ بينهن؛ فهو فاسقٌ.

من استحل ذنبًا حُرمته قطعيةٌ؛ فهو كافرٌ، وإن لم يعمل به قطُّ.

يا حبيبي؛ لا تعص الله في أمره ونهيه، وزاحم باطنك وظاهرك بالطيبات والمباحات، فإن أرادك الشيطان على فعل معصيةٍ فجاهده -مستجيرًا بالله- ألا تفعل، فإن عصمك الله منها فلم تفعلها فتلك رحمته يختص بها من يشاء، وإن غلبك هو ففعلتها فاستغفر الله وتب إليه من قريبٍ، فإن أرادك عليها ثانيةً ففعلتها فاستغفر الله وتب إليه من قريبٍ، افعل ذلك كل مرةٍ وإن تكرر ذنبك في اليوم؛ بَيْدَ أن كاره الخطايا لا يزال يتبصر أبواب الخطايا فيُوصِدها.

ما فرَّط الشيطان في غوايتك التي وعدك بها ولا ييأس؛ أفتُفَرِّط أنت في عبادتك التي وعدت الله بها وتيأس! هو باليأس أولى، أنت بالأمل أحق.

أين فلانٌ؟ – بعُد عن

أين فلانٌ؟

– بعُد عن الله كثيرًا.

لا أسألك: كيف هو؟ أسألك: أين؟

– بعُد؛ فبعُدت عنه.

ويحك! من علَّمك هذا! أخوك أحوج إليك بعيدًا؛ كيف هو نبِّئني؟

– رجع إلى صحبة السوء القديمة.

وما الجديد هنا! لا بد للإنسان من عادته، ولا بد للشيطان من سُنته، عادة الإنسان بحثُه -واعيًا وغير واعٍ- عن مجالٍ لإشباع حاجاته الباطنة والظاهرة، فلما فقد أخوك مجالكم -بتفريطٍ منه أو منكم- هرول إليه الشيطان بسُنته.

“بلَغني أن صاحبك قد جفاك، ولستَ بدار مَضْيعةٍ ولا هوانٍ؛ فالحَقْ بنا نُوَاسِك”؛ هل طرق سمعَك هذا القولُ يومًا! فإنها رسالةٌ بعث بها ملك غسَّان إلى سيدنا كعب بن مالكٍ -رضي الله عنه- لما هجره المسلمون بأمرٍ من الله ورسوله ﷺ بعد تخلُّفه عن غزوة تبوك، فتنةٌ لا يحيط بهَوْلِها خُبْرًا إلا الله.

كذلك يمكر الشيطان دُبُرَ كل جفوةٍ بين المؤمنين؛ يَبعُد أحدنا عن الأبرار فيُقرِّب الشيطانُ منه الفجار، يُذَكِّره بهم ويُذَكِّرهم به، يُجَمِّل الأخبثين في نفسه -وهي وقتئذٍ ذاتُ وَهَنٍ مكينٍ- إذ يُقَبِّح الأطيبين، فتجتمع عليه أسباب الخذلان.

– لستُ على حَمل نفسي قادرًا؛ فأنَّى لي حَمل أخي!

ألم تعلم أنك إن حملت أخاك بقدرتك؛ حملك الله بقدرته! وأين قدرتك من قدرته! ولست عليه بأكرمَ من الله عليك؛ أفتسارع في إنقاذ أخيك من أسباب غضب الله؛ ولا يسارع الله في إنقاذك بأسباب رضوانه وهو الأحمد الأشكر! لقد أتانا عن الله أن شَطْر معاملته عبادَه في الدارين؛ معقودٌ بنوع ما بينهم من معاملةٍ، فإنا إذا صدَّقناك كذَّبنا الله؛ “هَلْ جَزَآءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ”!

– فبيِّن لي ما وراء عجزي عن عون أخي من أسبابٍ.

لعلك ضعيف التزود من الطيبات التي هي مراكب الأحمال في السَّير إلى الله، أو أن إخلاص قصدك في دعوته كان ناقصًا، أو أنه فاتك من دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة قليلٌ أو كثيرٌ، أو أنك لم تكن بنفس أخيك خبيرًا فأخطأت خطابه، أو أن الله لم يَقْدُرْك في هداه سببًا فما أنت فيه بملومٍ.

– ألم يكن بُعد أخي عن الله ببعض ما كسبت يداه!

عملُه السبب الأول، وعليه أصالةً المُعَوَّل؛ لكن لعلي وإياك في بعض هذا أسبابٌ، وليس المقصود التثريب عليك ولا وضْع اللائمة عنه؛ لكني وَجِلٌ على نفسي وإياك غدًا في صورة صاحبنا اليوم، وإنما سُمِّي القلب قلبًا من تقلُّبه، فالصورة ردُّه إلى الله، والحقيقة تثبيت أقدامنا نحن، ومن يأمن!

لا تنسَ أخاكْ ** ترعاهُ يداكْ

أخوك أحوج إليك عاصيًا من حاجته إليك طائعًا، وأنت أحوج إليه غدًا من حاجته إليك اليوم؛ فإن القلوب ضعيفةٌ والفتن خطَّافةٌ، ولعلك أن تبعُد ببعض ما كسبت يداك عمَّا قليلٍ فيَعدمك اللهُ مغيثًا، عِياذًا برحمته ولِياذًا.

“وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ”.

ربِّ هذا نداؤك أبويَّ بعد عصيانهما وأنت الغني عنهما؛ كيف لم أفعل هذا بأخي بعد عصيانك ولا غنى لي عنه!

نادُوا على العصاة -رُؤَفَاءَ رُحَمَاءَ- كما نادى الله أبوَيكم، وعاتبوهم في الله -رافقِين مشفقِين- كما عاتبهما الله.

من أرشد العصاة -حيارى- أرشده الله، ومن أعانهم -عجزةً- أعانه الله، والصادق إذا ضعُفت أسبابه في (الدعوة)؛ تقوَّى عليها بسبب الأسباب (الدعاء).

“وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ”.

كان هذا يوم أُحُدٍ، جعل نبي الإله ﷺ يناديهم من خلفهم -وإن قلبه ليَفيض حرصًا عليهم-: “إليَّ عبادَ الله ارجعوا، إليَّ عبادَ الله ارجعوا”.

يا محب رسول الله؛ أحسن تصوُّر سيد الثقلين ماشيًا خلف أصحابه -متفرقين- وحاله حالٌ، يناديهم إلى رضوان الله أن يجتمعوا على سببه الأكبر، وليس له بهم حاجةٌ، إلا رحمةَ فؤاده الرائف، يحاذر عليهم فَوَات الجنة.

يا ورثة أنفاس نبي الله ﷺ، ولقد كان أوسع من عَرض الأرض صدرًا للعالمين؛ أقبلوا بقلوبكم على المدبرين، وأضيئوا من نفوسكم للشاردين، وعاملوا المذنبين بما تحبون أن تُعامَلوا به مذنبين؛ لا جَرَم أنا مساكين.

– لأسيرن خلف أخي على وجهي لا على قدمي، أستغفر الله ثم أخي.

معذرةُ قلبٍ إلى ربٍّ ليس

معذرةُ قلبٍ إلى ربٍّ ليس كمِثله مُفَضْفَضٌ إليه:

ما أنا بلائمٍ نفسي أن كانت تُفَضْفِض -كلَّ غلَبةٍ- إلى ودودٍ من أصفيائها؛ بالخاصِّ والدقيق، في عيبٍ أو ذنبٍ أو كربٍ؛ إني بشرٌ وإنهم نبلاء.

لكن لو أني كنت أُفَضْفِض إلى ربي؛ بمعشار ما فَضْفَضت به إلى هؤلاء!

على أن ربي كان المحيط بخاصِّي ودقيقي في عيوبي وذنوبي وكروبي خُبْرًا؛ والناس إما جاهلون بما بدا من فاقاتي أو هم متجاهلون.

وربي كان المقتدر على إصلاح عيبي وغفران ذنبي وكشف كربي، والناس -مهما استقدروا- عجزةٌ دون حاجاتهم؛ فأَنَّى يستطيعون!

وربي كان السَّتِير الذي لا يواري القبائح فحسْب؛ بل يُبْديني -مع غزارتها- في أعيُن الخَلق جميلًا بهيًّا، والناس لا يكادون يكتمون حديثًا.

وربي كان الواجد ما أراد من جلب نفعٍ ودفع ضرٍّ بكن منه فيكون، بالغًا إياه غالبًا عليه قاهرًا فوقه، والناس فقراء رأيٍ أو عملٍ أو كليهما.

وربي كان المنَّان الذي يعطي على غير استحقاقٍ وعطاءً غير مجذوذٍ، والناس إن أعطوا فلمستحقٍّ لديهم، وعطاؤهم -مهما طال- ممنونٌ.

وربي كان الجواد الذي تعرَّف أول ما تعرَّف إلى عباده في كتابه باسمه الأكرم، بلغ جودُه أن جعل دعائي إياه بتحصيل مطالبي نفْس عبادته التي خلقني لأجلها، والناس إما بخلاء مالٍ أو وقتٍ أو شعورٍ أو عملٍ.

وربي كان سُبُّوحًا قُدُّوسًا لا يُعَيِّر، والناس يُعَيِّرون، ومن لم يُعَيِّر فمعاملتَه يُغَيِّر.

وقبل هذا وبعده؛ فإن ربي كان المنفرد بمحبة إلحاحي عليه؛ في ضرورياتي وحاجِيَّاتي وتحسينياتي، لا شريك لله في محبة هذا أزلًا أبدًا.

ليس إلحاحُ العبد على ربه كلما دعاه (بنفْس كلامه.. بنفْس ألفاظه.. بنفْس أحرُفه)؛ مستوِيَ الطرفين عند الله لا هو محبوبٌ ولا هو مكروهٌ؛ كلا؛ إن إلحاح عبده عليه أحبُّ شيءٍ من لسانه إليه، وآثَرُ شيءٍ من قلبه لديه.

أن أقول لربي كل مناجاةٍ كل ما قلته له في السابقة وأنا قائلُه له في اللاحقة؛ ذلك الذي يرفعني الله به مكانًا عَلِيًّا، ويقرِّبني منه نَجِيًّا.

وألقاب الفَضْفَضة إلى الرحمن: الدعاء، والرجاء، والتذلل، والتضرع، وألقابها إلى الناس: شكايةٌ، واستجداءٌ، واستعطافٌ، ومسكنةٌ.

وإكثار الطلب إلى الناس الذي يعدُّونه رُخْصًا أَهُون به عندهم؛ يجعله الله في عليائه فوق عرشه وسمائه كمال عبوديةٍ، ويباهي بي ملأه الأسمى.

الفَضْفَضَة حيث كانت ذلٌّ وافتقارٌ؛ فأنْ يكونا من قلبي لربي أَصْوَنُ وأَزْيَنُ.

إنكم لن تُفَضْفِضوا إلى ربكم في خيرٍ من سجودكم بين يديه؛ فأطيلوا السجود عونًا عليها، أطيلوه وإنْ شيئًا فشيئًا، لا بد من تعوُّد العبيد على السجود الطويل، إنما السجود الذي يؤتي رُوحَ المؤمن أُكُلَها السجود الطويل.

صورة السجود: جسدٌ جاثٍ على الأرض، وحقيقته: قلبٌ طائفٌ حول العرش.

السجود عزُّك واستغناؤك واقترابك، فكلما أطلته زاد حظُّك من هذا جميعًا.

السجود دخول الفردوس قبل دخوله، السجود حُلول الرضوان قبل حُلوله.

السجود مشفى السماء في الأرض من عِلَل الأرواح؛ ما ظهر منها وما بطن.

السجود محطة تموين قلبك من أقوات ربك؛ كل مرحلةٍ في الطريق.

السجود الناظم ما تشظَّى منك، السجود الجابر ما انكسر فيك.

السجود المضيء ما انطفأ بروحك، السجود الماسح على غائر جروحك.

السجود سكونك الضروري عقب كل كَدْحٍ؛ في العيوب والذنوب والكروب.

السجود سِلمك بعد كل غارةٍ تشنُّها عليك الدنيا، أو تشنُّها أنت للدين.

السجود الأُنس بحضرة القدس؛ فرارًا إلى الله من كل جاذبٍ كاذبٍ.

السجود الطيران إلى سدرة المنتهى، السجود الشرف، السجود المعتصَم، السجود الملاذ، السجود المستراح، السجود الرسوخ، السجود الرُّجعى.

سألني بائسٌ كأنه يائسٌ: كيف

سألني بائسٌ كأنه يائسٌ: كيف أرجو الله غفران ذنوبي ولا حد لها!

يا حبيبي؛ عظيمٌ تعاظُمك ذنوبك حتى لكأنها غير محدودةٍ، هذا اللائق بك عبدًا، لا يليق بك سواه.

فأما أن ذنوبك في حقيقتها غير محدودةٍ (مهما بلغت نوعًا وكمًّا وكيفًا وتراكُبًا وتعاقُبًا)؛ فاللهم لا.

كيف وأنت مقترفُها الإنسان (محدود الذات والصفات والأفعال)!

يا حبيبي؛ إن ربنا الله الذي يُطاع ويُعصى (غير محدود الذات والصفات والأفعال)، من اعتقد هذه الحقيقة العظمى حق الاعتقاد؛ لم يتعاظم حسناته فيُعجب بها أو يتيه؛ فإنها مهما كبِرت دون جلال الله، ولم يتعاظم سيئاته فيقنط من رحمة الله أو ييأس من رَوحه؛ فإنها مهما كثُرت دون جمال الله.

الآن الآن ندخل أجمعون بالمحدود من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ على غير المحدود من صفات جمال ربنا.

رباه إنا عليك داخلون بخطايانا كلِّها، كلِّها كلِّها؛ ما ظهر منها وما بطن، ما دقَّ منها وما جلَّ؛ فما أنت فاعلٌ بنا!

مولاه سيِّداه؛ ما لمَعاويزك محاويجك عندك من عامِّ الغفران وتامِّ المتاب، شاهدين على أنفسهم بغاية الضعف وغاية الافتقار وغاية الذل، معترفين بخطاياهم لا يدفعون منها مثقال حبة خردلٍ، لا يرون أنفسهم مستحقين شيئًا من فضلك الكبير طرفة عينٍ! ما لنا عندك حبيبَنا وحالُنا ذي الحال!

كأني بحبيبي الآن استروحت روحه برَوح الله، فاستغفر ربه وخرَّ راكعًا وأناب.

هل أتاك نبأ الدياثة الخفية!

هل أتاك نبأ الدياثة الخفية!

ألا إنها شرٌّ من الدياثة الجلية (من وجه خفاء معناها عن أكثر الناس).

الدياثة الجلية ألا يغار الرجل على أهل بيته، والدياثة الخفية ألا يغار الرجل على نفسه، ولا بلاغ إلى الأولى إلا بسبيل الثانية.

شابٌّ لا يتعاطى المخدرات؛ لكنه يجالس متعاطيها، أو يعينه بمالٍ وهو يعلم أنه يستعين به، ولولا سقوط حرمته في نفس المتعاطي ما تعاطى بين يديه، ولا سولت له نفسه التسول من ماله لأجلها.

فتًى لا يدخن أو لعله؛ يعمل في مقهًى، يناول فيه الرجال والنساء -مختلطين أو غير مختلطين- الدخان وما حرَّم الله، لا يرونه -إذ يطوف عليهم فيها بما يشتهون- غير آلة مناولةٍ جامدةٍ لا يعبؤون بها.

عاملٌ عند ذي جاهٍ ظلومٍ غشومٍ؛ يسارع في هواه سعي البغايا عند ساداتهن، يجود له بقهر الموظفين تبرُّعًا ابتغاء رضوانه، يقول -كلما عوتب- أخزى كلمةٍ قالها صاغرٌ: أنا عبده المأمور! وصدق الدنيء.

هذه الدياثة الخفية، لا تزال بأهلها حتى تُهَوِّن عليهم أختها الجلية؛ ألا من عاقبه الديان بشيءٍ منها؛ فلينزع هرولةً عنها، وليَصُن نفسًا بين جَنْبَيه أعلاها الله بالتوحيد وأغلاها؛ واغوثاه مولاه من مباديها!

ما ظنك بربك! ألم يُعَوِّدك

ما ظنك بربك!

ألم يُعَوِّدك رحمته!

متى كنت بدعائه شقيًّا!

ألست الغاديَ الرائحَ عُمُرَك أجمعَ بين فِجاج آلائه!

هل غادر الله فيك من مثقال ذرَّةٍ لم يغرقه في أَنْهُر فضله!

فيم سوء الظن به وما أَلِفْت سوى لطفه! أم أن إيلافك اللطف بجَّحك!

ألست الناقم على كل من أحسنت إليه بالنقير والقِطمير؛ فلم يشكر لجلال نَعمائك! أين نقمتك على نفسٍ كَنودةٍ تعدُّ يسير المصائب وتنسى وفير المِنن!

كم كشف عنك من ضرٍّ وهمٍّ! وأذهب عنك من بأسٍ وغمٍّ!

تذكُر يوم صبَّحك راضيًا مجبورًا؛ وقد بِتَّ بمعصيته مسرورًا!

ألست محوطًا بأنعُمه ظاهرةً وباطنةً؛ في نفسك ومن تحب!

كم يشتاق لحرِّيتك أسيرٌ لا يرجو عليها مزيدًا! ويتمنى عافيتك سقيمٌ قرَّح جلدَه طولُ الرُّقاد! ويتوق إلى صيانة وجهك فقيرٌ جفَّف ماءَ وجهه ذلُّ السؤال! ويشتهي مفضوحٌ بخطيئته بين الناس سَترًا من الله يراه عليك مسدولًا!

كم تبغَّضت إلى الله -جافيًا- بما يكره؛ فوالاك -متودِّدًا- بما تحب!

هل فرَّط في هدايتك الكونية والشرعية من شيءٍ؛ فتعتب عليه بشيءٍ!

من علَّمك أن لك عنده شيئًا وأن عليه فِعلَه لك! عزَّ الفعَّال لما يريد وتبارك.

ساعةَ أثنى عليك أحدهم خيرًا ولم تغسل يدَك بعدُ من فسوقٍ؛ كيف نسيتها!

كم دلَّك عليه، وعلَّمك من لدنه، وعرَّفك سبيله، ووصلك بهُداه!

كم أقامك في مراضيه حين قام غيرك في مساخطه؛ يختصك بالعناية!

أرأيت كيف جعل إمهاله إلهامًا وإنظاره إنذارًا؛ فهو يتابع لك بين آياته لتؤوب!

أفلما شرح للطاعات صدرك من بعد سعيك في المعاصي؛ كان شكره نسيانه!

الساعة التي تصلِّي فيها هي هي ساعة إشراكِ مشركٍ، وابتداعِ مبتدعٍ، وظُلمِ ظالمٍ، وفجورِ فاجرٍ، وشرودِ شاردٍ، وإلحادِ مطرودٍ عن الطريق كلها.

أمستحقٌّ أنت عصمة الله إياك من فاحشةٍ قارفها أدنى الناس منك! وإنجاءَك من ظلمٍ لابَسَه جارٌ ليس بينك وبينه أكثرُ من جدارٍ! وتسليمَك من غوايةٍ أشهدك احتراق العامة بها! فبما نعمةٍ من الله لم يكن شيءٌ من ذلك.

أي حسنةٍ لك عنده حتى يَنْظِمك في صفوف الموحدين حقًّا؛ تعادي أعداءه وتوالي أولياءه! ولو شاء جعل عقوبتك في معاداة أوليائه وموالاة أعدائه.

هذا الإسلام الذي أنعمك به؛ ضل عنه كافرٌ يودُّ يوم التغابن لو أنه أسلم، هذه السُّنة التي ترغد فيها حُرِمها مبدِّلٌ يُذاد عن الحوض غدًا، تلك الفتن التي تُصَد آناء الليل وأطراف النهار عنها؛ هو الذي أنقذك برأفته ورحمته منها.

لماذا لم تكن في صفات الله معطِّلًا أو مجسِّمًا! وفي حقيقة الإيمان خارجيًّا أو مرجئًا! وفي عقيدة القدَر نافيًا أو غاليًا، وفي الصحابة شِيعيًّا أو ناصِبيًّا!

لولا أن منَّ عليك بمنهاج أهل السُّنة تتقلَّب في ساجديهم؛ لخُسِف بك.

أوجدك من العدم ليُعَرِّضك لسعادة العبادة في الدنيا، ولو أنه جعل نفس العبادة جزاءها لكان أوفى الشاكرين؛ لكنه وعدك عليها جنةً عرضها السماء والأرض، تَخْلُد بها في رضوانه الأكبر محبورًا بلذة النظر إلى وجهه الأكرم، ثم أعانك على ما له أوجدك، ولو شاء لم يكن من ذلك شيءٌ.

كم باعدَت ألطافُه الخفية بين ذرَّات بلائك الكثيف؛ حتى أبرزتك إلى براح العافية! لولا إيصاله دقائق برِّه برفقٍ إلى جَوَّانِيَّاتك قبل بَرَّانِيَّاتك من حيث لا تشعر ولا تحتسب؛ ما نجوت منها، فانظر إلى آثار اسمه اللطيف!

كم يسَّر لك عسيرًا، وقرَّب إليك بعيدًا، وفتح عليك مغلَّقًا، وجمع لديك مفرَّقًا!

كم قطَعته -فقيرًا إليه، وهو الغني الحميد- فوصلك!

كم بعُدت عنه -لا حول لك ولا قوة إلا به- فأدناك منه!

كم استدبرت رحمته فاستقبلك بها تلقاء وجهك؛ يقول لك: لا تُعرض عني!

كم أعميت عينك عن رسالةٍ أرسلها إليك، فأقرأها قلبَك -قاهرًا صُدودك- فوعاها؛ فصلُح بها شأنك، ومشيت بها سويًّا على صراطٍ مستقيمٍ!

إن الذين يشكون في الواقع والمواقع رحيمهم -تعاظمت رحمته- إلى من لا يرحمهم؛ لولا أنه جعل لهم عقولًا وأعيُنًا وألسُنًا، ولولا أنه وهبهم طاقاتٍ وأوقاتٍ، ولولا أنه يسر لهم أموالًا وأحوالًا؛ لولا هذا وأضعافه من مِنحه ما قدروا على شكايته، وإلا فالذين يعدمون هذا لا يقدرون على ذلك.

السماوات والأرض مكانًا، الليل والنهار زمانًا، الشمس والقمر آيتاهما، الماء والهواء ، المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والمراقد والملابس والمراكب، نفسك وجسمك ومخك، كل ذلك (بالنوع والكمِّ والكيف) من عطاءات الربوبية التي ما كانت قطُّ محظورةً عليك؛ بل لا يزال باسطُها باسطَها حواليك؛ كلها لدلالتك عليه فتودُّدك إليه.

القرآن آيةٌ آيةٌ، السنة حديثٌ حديثٌ، الملائكة ملَكٌ ملَكٌ، الأنبياء نبيٌّ نبيٌّ، عقائد الإسلام وشرائعه وآدابه، العُبَّاد والعلماء والحُفَّاظ والمصلحون والمجاهدون والمحسنون، كل هذا وما لا يحصى عدًّا من عطاءات الألوهية المُثلى؛ لإعانتك أنت -ما أنت!- على سعادتك الهائلة السرمدية.

كيف صارت عطاءات الربوبية وعطاءات الألوهية؛ نعمًا مألوفةً مغفولًا عنها لا تكاد تُذكر فتُشكر كأنما هي حقٌّ لنا! وكأن على المنعم بها شُكر قبولنا لها.

نعمٌ ما كان حق الواحدة منها؛ إلا سجود القلب الحياةَ كلَّها يحاول بعض الحمد وبعض الشكر وبعض الوفاء، وما هو ببالغٍ شيئًا من ذلك ولا يستطيع.

أتراه يستكثر بك من قلَّةٍ، أو يستعز بك من ذلَّةٍ؛ فهو يسارع في هواك!

لم يقل ربك: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”؛ حتى قال في عقبها: “مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ”؛ ليُعْلِمك أنه لا يكلِّف أحدٌ أحدًا بشيءٍ إلا وهو غانمٌ به منتفعٌ منه، إلا هو؛ فإنه بصفات الكمال وكمال الصفات كلَّف، وما كلَّف المكلَّفين إلا لِمَا هو عائدٌ عليهم هم من عوائد الخير في دُورهم الثلاثة، وما كانوا أجمعون ليَبْلغوا نفعه فينفعوه شيئًا.

ذلك الله؛ هو ربك وأنت صنعته، ولا يصنع صانعٌ حكيمٌ من الناس شيئًا ليُتلِفه؛ كيف بالحكيم الخبير واسع الرحمة والمغفرة! ما خلقك إلا للرحمة، ولا أنزل إليك الكتاب لتشقى، فما أصابك بعدُ من تلفٍ فمن نفسك.

من بصَّرك ما بصَّرك به أجمل الجُملاء من آيات كونه وشرعه!

من أسمعك ما أسمعكه أكرم الكُرماء: “يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ”!

لم لا تشهد من نعمه إلا ما منعك منه أو أخَّره عنك (مما لست له، أو ليس لك)؛ حتى صار ارتقابك إياه حجابًا لعينيك عن شهود حاقِّ النعم!

لم يُثيبك على صبرك في المصائب؛ وما أصابتك إلا بما كسبت يداك!

تسوؤك سويعاتٌ من بلاءٍ ما كان لها أن تخلو من لطف الله ورحمته؛ وأنت محوطٌ بالعافية قبلها وبعدها! ثم إنه ليس لبلاءٍ غايةٌ إلا تأهيلك للغفران والرضوان، وهو أعونُ أسباب دنيا العبد على دينه لو كان من الفاقهين.

كيف تطيع من أخرج أباك من الجنة في شهوةٍ يزينها! أم كيف تصدِّقه في شبهةٍ يزخرفها! أم كيف تكون سببًا في: “وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ”!

كيف إذ أعرضت لم تُقبل! أم كيف حين عثرت لم تنهض! ألا تستوحش بعيدًا!

ألم تعلم أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه! ألم يأتك أن رُجْعاك إليه يومًا قريبًا!

قد أحبَّ لك أن تلقاه آمنًا مرحومًا؛ فلم يزل يُحَبِّبك ويُرَغِّبك ويُقَرِّبك مما تكون به يوم لقائه كذلك، لم يضرب عنك الذِّكر صفحًا أن كنت من المسرفين.

قد أعد النار يوم أعدها لغيرك؛ ففيم ركضُك أنت إليها وإصرارك عليها! أحالفٌ أنت بين الرُّكن والمقام أن تدخلها؛ فأنت آخذٌ في الوفاء بقسمك!

أليس عجيبًا أن فرض عليك حُسن الظن به والاستبشار برحمته؛ وإن عصيت!

أليس غريبًا أن جعل يأسك من رحمته كفرًا به أكبرَ؛ وإن كنت لذلك أهلًا!

أليس معيبًا أن تكون أحوج محتاجٍ إليه؛ ثم تعامله كالمستغني عنه!

“وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا”! خالعةٌ هذه القلوبَ تُطَيِّرُها، آهٍ وأوَّاهُ وأوَّتاهُ وأوَّهْ!

كيف يا رب أنجيتني من كُرَبٍ عاهدتك في لُجَجها: لئن أنجيتني منها لأكونن من الشاكرين؛ وكنت تعلم علمًا أزليًّا أني لا أُوفي الوعد ولا أحفظ العهد!

رب لو بدا لكل عبادك من بعضهم معشارُ ما بدا لك مني فردًا من أنواع الشنائع والفظائع؛ لقطعوهم ومنعوهم؛ كيف وأنت المحيط خُبْرًا بكل سيئاتي -ما ظهر منها وما بطن، ما دقَّ منها وما جلَّ- لم تقطعني ولم تمنعني! فلولا أنك العلي الكبير، وأنك الغني الحميد، وأنك البر الرحيم، وأنك الواجد الماجد، وأنك الحنان المنان؛ لم تفعل، رباه رباه بأنك الله لم تفعل.

رب لم وقد فرطت في الخير اختيارًا لم تُبَغِّضه إلي! ولم وقد حرصت على الشر تكرارًا لم تُحَبِّبه إلي! فأنا لا أزال -برأفةٍ منك، ورحمةٍ من لدنك- أتعشق الخير وأهله، وأمقت الشر وأهله؛ فإني لأحمدك على هذه -بخاصَّةٍ- حمدًا ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما، عائذًا بك من مكرك.

رب كيف لم ترفع عني سِترك قطُّ؛ وأنا الذي لم يَقْدُره حق قدره!

رب كيف قدَّمْتني في كثيرٍ من أمري؛ وقد أخَّرْتك في كثيرٍ من أمرك!

رب كيف لم تتوفَّني على خطيئةٍ من خطاياي؛ طال ما حلمت علي فيها!

رب كيف تركتني أدخل بيتك مصليًّا؛ وأنت من نهاني أن أُدخل بيتي غير تقيٍّ!

يا من لا تنفعه طاعة من أطاعه كما لا تضره معصية من عصاه؛ اقبل مني ما لا ينفعك وإن كان قليلًا، واغفر لي ما لا يضرك وإن كان كثيرًا.

أفلح الفارٌّون إلى سريع العفو والمعافاة، قد أيقظت أفئدتهم الموعظة؛ “مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ”! رباه شاكرون مؤمنون.

المقتولون منا بأيدي الكفرة الفجرة

المقتولون منا بأيدي الكفرة الفجرة ضُبَّاطِ الأمن؛ أربعةٌ:

– الشهداء بالإعدام: المقتولون منا بالقانون المنصوص عليه.

– الشهداء بالتصفية: المقتولون منا خارج القانون المنصوص عليه، وإن كان قتلُنا (كيف كان) محميًّا بالسلاح الصانعِ القانون، فلا فرق على الحقيقة.

– الشهداء بالغشامة: المقتولون منا بكَمِّ تعذيبٍ أو كيفِه، فيموت أحدنا بغير رصاصٍ، وقد يُقتل بالرصاص إذا هو فجأهم بمقاومةٍ أو محاولة هروبٍ.

– الشهداء بالسَّلْب: المقتولون منا بإهمال أسقامهم الكبيرة حتى الموت، كما جرى البارحة للشيخ الكريم حسام الدين عبد المنعم وهو بعربة الترحيل.

فأما المقتولون تصفيةً فلا يُسَلَّمون إلى أهليهم (غالبًا)، ويُنْبَذون في الصحاري أو الخرابات أو نحوها، وأما المقتولون بالإعدام أو الغشامة أو السَّلْب فيُسَلَّمون إلى أهليهم (غالبًا)، إلا أن تكون آلةُ القتل بالغشامة الرصاص؛ فكثيرًا لا يُسَلِّمونهم إلى أهليهم ويُلْحَقون بالمُصَفَّين، وفي عامة هؤلاء الشهداء يتحكم الكفار في شؤون جنائزهم ودفنهم ما دقَّ منها وما جلَّ، والله أكبر وأجل.

في الغشامة يُعَلِّلون لأهلينا قتلنا بالانتحار أو بالعلل الجسدية المفاجئة أو نحو ذلك، ويُلْزِمونهم -بالوعيد والتهديد- إظهارَ هذا التعليل دون ما سواه.

لا يشك في ردَّة هؤلاء وحِلِّ دمائهم إلا ظلومٌ جهولٌ من فُسَّاق الرعاع حقُّهم الخَرَس، أو مغموصٌ في النفاق من المتعالمين خِرَقِ فروج الطواغيت.

اللهم صُبَّ عذابك الأشدَّ الأشقَّ على شيخ الأزهر ومفتيه ووزير أوقافه، وعلى برهامي وسائر خنازير الزور، وعلى الخليفي وغلامه ابن شمسٍ، وعلى سائر الكهان والدجالين، واجعلنا في عذابهم أسبابًا، وثبتنا فيهم حتى نلقاك.